للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الرَّابِعَةُ- اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مُعَاوَضَةٍ تِجَارَةٌ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ الْعِوَضُ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ (بِالْباطِلِ) أَخْرَجَ مِنْهَا كُلَّ عِوَضٍ لَا يَجُوزُ شَرْعًا مِنْ رِبًا أَوْ جَهَالَةٍ أَوْ تَقْدِيرِ عِوَضٍ فَاسِدٍ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَخَرَجَ مِنْهَا أَيْضًا كُلُّ عَقْدٍ جَائِزٍ لَا عِوَضَ فِيهِ، كَالْقَرْضِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ لَا لِلثَّوَابِ. وَجَازَتْ عُقُودُ التَّبَرُّعَاتِ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى مَذْكُورَةٍ فِي مَوَاضِعِهَا. فَهَذَانِ طَرَفَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا. وَخَرَجَ مِنْهَا أَيْضًا دُعَاءُ أَخِيكَ إِيَّاكَ إِلَى طَعَامِهِ. رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) فَكَانَ الرَّجُلُ يُحْرَجُ أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بَعْدَ مَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَنُسِخَ ذَلِكَ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي فِي (النُّورِ)، فَقَالَ: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) إِلَى قَوْلِهِ (أَشْتاتاً «١»)، فَكَانَ الرَّجُلُ الْغَنِيُّ يَدْعُو الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِهِ إلى طعامه فيقول: إني لا جنح أَنْ آكُلَ مِنْهُ- وَالتَّجَنُّحُ الْحَرَجُ- وَيَقُولُ: الْمِسْكِينُ أَحَقُّ بِهِ مِنِّي. فَأُحِلَّ فِي ذَلِكَ أَنْ يَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأُحِلَّ طَعَامُ أَهْلِ الْكِتَابِ. الْخَامِسَةُ- لَوِ اشْتَرَيْتَ مِنَ السُّوقِ شَيْئًا، فَقَالَ لَكَ صَاحِبُهُ قَبْلَ الشِّرَاءِ: ذُقْهُ وَأَنْتَ فِي حِلٍّ، فَلَا تَأْكُلْ مِنْهُ، لِأَنَّ إِذْنَهُ بِالْأَكْلِ لِأَجْلِ الشِّرَاءِ، فَرُبَّمَا لَا يقع بينكما شراء «٢» فيكون ذلك الا كل شبهو، وَلَكِنْ لَوْ وَصَفَ لَكَ صِفَةً فَاشْتَرَيْتَهُ فَلَمْ تَجِدْهُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ فَأَنْتَ بِالْخِيَارِ. السَّادِسَةُ- وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ الْغَبْنِ فِي التِّجَارَةِ، مِثْلَ أن يبيع رجل ياقوتة بِدِرْهَمٍ وَهِيَ تُسَاوِي مِائَةً فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَأَنَّ الْمَالِكَ الصَّحِيحَ الْمِلْكِ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ الْكَثِيرَ بِالتَّافِهِ الْيَسِيرِ، وَهَذَا مَا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ إِذَا عُرِفَ قَدْرُ ذَلِكَ، كَمَا تَجُوزُ الْهِبَةُ لَوْ وُهِبَ. وَاخْتَلَفُوا فِيهِ إِذَا لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَ ذَلِكَ، فَقَالَ قَوْمٌ: عَرَفَ قَدْرَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْرِفْ فَهُوَ جَائِزٌ إِذَا كَانَ رَشِيدًا حُرًّا بَالِغًا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْغَبْنَ إِذَا تَجَاوَزَ الثُّلُثَ مَرْدُودٌ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِنْهُ الْمُتَقَارِبُ الْمُتَعَارَفُ فِي التِّجَارَاتِ، وأما المتفاحش الفادح فلا، وقال ابن وهب من أصحاب


(١). راجع ج ١٢ ص ٣١١.
(٢). في ط وج: بيع.