للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ أَوَّلَ إِسْلَامِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ مَرَّ بِرَجُلٍ مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا) فَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى وَجْهِهِ وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى إِلَى بَيْتِهِ فَأَسْلَمَ مَكَانُهُ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ خِفْتُ أَلَّا أَبْلُغَ بَيْتِي حَتَّى يُطْمَسَ وَجْهِي. وَكَذَلِكَ فَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَسَمِعَهَا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ وَأَسْلَمَ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كُنْتُ أَدْرَى أَنْ أَصِلَ إِلَيْكَ حَتَّى يُحَوَّلَ وَجْهِي فِي قَفَايَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يُهَدِّدَهُمْ بِطَمْسِ الْوُجُوهِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا [ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا «١»] وَلَمْ يُفْعَلْ ذَلِكَ بِهِمْ، فَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا آمَنَ هَؤُلَاءِ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ رُفِعَ الْوَعِيدُ عَنِ الْبَاقِينَ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْوَعِيدُ بَاقٍ مُنْتَظَرٌ. وَقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ طَمْسٍ فِي الْيَهُودِ وَمَسْخٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَوْ نَلْعَنَهُمْ) أَيْ أَصْحَابَ الْوُجُوهِ (كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) أَيْ نَمْسَخَهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. وَقِيلَ: هُوَ خُرُوجٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ. (وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) أَيْ كَائِنًا مَوْجُودًا. وَيُرَادُ بِالْأَمْرِ الْمَأْمُورِ فَهُوَ مَصْدَرٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَتَى أَرَادَهُ أَوْجَدَهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ أَخْبَرَ بِكَوْنِهِ فَهُوَ كَائِنٌ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً «٢») فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالشِّرْكُ! فَنَزَلَ (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ). وَهَذَا مِنَ الْمُحْكَمِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ. (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي قَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ. فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: قَدْ أَبَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ كُلَّ صَاحِبِ كَبِيرَةٍ فَفِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ ذَنْبَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ عَلَيْهِ مَا لَمْ تَكُنْ كَبِيرَتُهُ شِرْكًا بِاللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ «٣») فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَشَاءُ أَنْ يَغْفِرَ الصَّغَائِرَ لِمَنِ اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ وَلَا يَغْفِرُهَا لِمَنْ أَتَى الْكَبَائِرَ. وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِلَّتِي فِي آخِرِ (الْفُرْقَانِ «٤»). قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: نَزَلَتْ سُورَةُ (النِّسَاءِ) بَعْدَ (الْفُرْقَانِ) بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَالصَّحِيحُ أَنْ لَا نَسْخَ، لِأَنَّ النسخ في الاخبار


(١). في ج.
(٢). راجع ج ١٥ ص ٢٦٧.
(٣). راجع ص ١٥٨ من هذا الجزء.
(٤). راجع ص ١٥٨ من هذا الجزء.