للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ... " أَلِيمٌ" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعْنَاهُ مُؤْلِمٌ أَيْ مُوجِعٌ، مِثْلَ السَّمِيعِ بِمَعْنَى الْمُسْمِعِ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ يَصِفُ إِبِلًا:

وَنَرْفُعُ مِنْ صُدُورٍ شَمَرْدَلَاتٍ ... يَصُكُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ «١»

وَآلَمَ إِذَا أَوْجَعَ. وَالْإِيلَامُ: الْإِيجَاعُ. وَالْأَلَمُ: الْوَجَعُ، وَقَدْ أَلِمَ يَأْلَمُ أَلَمًا. وَالتَّأَلُّمُ: التَّوَجُّعُ. وَيُجْمَعُ أَلِيمٌ عَلَى أُلَمَاءٍ مِثْلِ كَرِيمٍ وَكُرَمَاءٍ، وَآلَامٌ مِثْلُ أَشْرَافٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ)

مَا مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ بِتَكْذِيبِهِمُ الرُّسُلَ وردهم على الله عز وجل وَتَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِهِ، قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّخْفِيفِ، وَمَعْنَاهُ بِكَذِبِهِمْ وَقَوْلِهِمْ آمَنَّا وَلَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ. مَسْأَلَةٌ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إِمْسَاكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِنِفَاقِهِمْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّمَا لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ حَالَهُمْ أَحَدٌ سِوَاهُ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى بَكْرَةِ «٢» أَبِيهِمْ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْتُلُ بِعِلْمِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا مُنْتَقَضٌ، فَقَدْ قَتَلَ بِالْمُجَذَّرِ بْنِ زِيَادٍ الْحَارِثُ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ الصَّامِتِ، لِأَنَّ الْمُجَذَّرَ قَتَلَ أَبَاهُ سُوَيْدًا يَوْمَ بُعَاثٍ «٣»، فَأَسْلَمَ الْحَارِثُ وَأَغْفَلَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَتَلَهُ، فَأَخْبَرَ بِهِ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَتَلَهُ بِهِ، لِأَنَّ قَتْلَهُ كَانَ غِيلَةً «٤»، وَقَتْلُ الْغِيلَةِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ. قُلْتُ: وَهَذِهِ غَفْلَةٌ مِنْ هَذَا الْإِمَامِ، لِأَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ الْمَذْكُورُ فَلَيْسَ بِمُنْتَقَضٍ بِمَا ذُكِرَ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ وَلَا يَثْبُتُ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْقِطَاعِ الْوَحْيِ، وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ تِلْكَ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ بِوَحْيٍ، فَلَا يُحْتَجُّ بِهَا أَوْ مَنْسُوخَةٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.


(١). شمردلات: إبل طوال. ونرفع: نستحثها في السير. والوهج: الحر الشديد المؤلم.
(٢). قوله: (على بكرة أبيهم) هذه كلمة للعرب يريدون بها الكثرة وتوفير العدد.
(٣). بعاث: موضع في نواحي المدينة، كانت به وقائع بين الأوس والخزرج في الجاهلية، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج.
(٤). راجع هذه القصة في سيرة ابن هشام ص ٣٥٦، ٥٧٩ (طبع أوربا.