قُلْتُ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الرَّاجِحُ الَّذِي يُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهِ لِعُمُومِهِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إِشْعَارِ الْهَدْيِ وَهِيَ: الثَّانِيَةُ- فَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّ جِهَةٍ يُشْعَرُ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ: يَكُونُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْعَرَ نَاقَتَهُ فِي صَفْحَةِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ أَشْعَرَ بَدَنَةً مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا عِنْدِي حَدِيثٌ مُنْكَرٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ غَيْرُهُ. وَصَفْحَةُ السَّنَامِ جَانِبُهُ، وَالسَّنَامُ أَعْلَى الظَّهْرِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَكُونُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ أَيِّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَمَنَعَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ: إِنَّهُ تَعْذِيبٌ لِلْحَيَوَانِ، وَالْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا فَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْوَسْمِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الْمِلْكُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ أَوْغَلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي الرَّدِّ وَالْإِنْكَارِ حِينَ لَمْ يَرَ الْإِشْعَارَ فَقَالَ: كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ بِهَذِهِ الشَّعِيرَةِ فِي الشَّرِيعَةِ! لَهِيَ أَشْهَرُ مِنْهُ فِي الْعُلَمَاءِ. قُلْتُ: وَالَّذِي رَأَيْتُهُ مَنْصُوصًا فِي كُتُبِ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ الْإِشْعَارُ مَكْرُوهٌ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ وَلَا سُنَّةٍ بَلْ هُوَ مُبَاحٌ، لِأَنَّ الْإِشْعَارَ لَمَّا كَانَ إِعْلَامًا كَانَ سُنَّةً بِمَنْزِلَةِ التَّقْلِيدِ، وَمِنْ حَيْثُ أَنَّهُ جَرْحٌ وَمُثْلَةٌ كَانَ حَرَامًا، فَكَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ فَجُعِلَ مُبَاحًا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِشْعَارَ مُثْلَةٌ وَأَنَّهُ حَرَامٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعْذِيبُ الْحَيَوَانِ فَكَانَ مَكْرُوهًا، وَمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الِابْتِدَاءِ حِينَ كَانَتِ الْعَرَبُ تَنْتَهِبُ كُلَّ مَالٍ إِلَّا مَا جُعِلَ هَدْيًا، وَكَانُوا لَا يَعْرِفُونَ الْهَدْيَ إِلَّا بِالْإِشْعَارِ ثُمَّ زَالَ لِزَوَالِ الْعُذْرِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَحُكِيَ عَنِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: يَحْتَمِلُ أَنْ أَبَا حَنِيفَةَ كَرِهَ إِشْعَارَ أَهْلِ زَمَانِهِ وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْبَضْعِ عَلَى وَجْهٍ يُخَافُ مِنْهُ السَّرَايَةُ «١»، أَمَّا مَا لَمْ يُجَاوِزِ الْحَدَّ فَعَلَ كَمَا كَانَ يفعل في عهد رسول الله صلى
(١). اسراية: هي من قول الفقهاء. سرى الجرح إلى النفس أي دام ألمه حتى حدث منه الموت. كما يستفاد من المصباح. [ ..... ]
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute