للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يُدْنِيَهُ مِنَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ تَحْتَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ) فَهَذَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَلِمَ قَبْرَهُ وَوَصَفَ مَوْضِعَهُ، وَرَآهُ فِيهِ قَائِمًا يُصَلِّي كَمَا فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَخْفَاهُ اللَّهُ عَنِ الْخَلْقِ سِوَاهُ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِئَلَّا يُعْبَدَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَعْنِي بِالطَّرِيقِ طَرِيقَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَوَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إِلَى جَانِبِ الطُّورِ مَكَانَ الطَّرِيقِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ لَطْمِ مُوسَى عَيْنَ ملك الموت وفقيها عَلَى أَقْوَالٍ، مِنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ عَيْنًا مُتَخَيَّلَةً لَا حَقِيقَةً، وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنَّ مَا يَرَاهُ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ صُوَرِ الْمَلَائِكَةِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَمِنْهَا: أَنَّهَا كَانَتْ عَيْنًا مَعْنَوِيَّةً وَإِنَّمَا فَقَأَهَا بِالْحُجَّةِ، وَهَذَا مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَعْرِفْ مَلَكَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ رَأَى رَجُلًا دَخَلَ مَنْزِلَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ يُرِيدُ نَفْسَهُ فَدَافَعَ عَنْ نَفْسِهِ فَلَطَمَ عَيْنَهُ فَفَقَأَهَا، وَتَجِبُ الْمُدَافَعَةُ فِي هَذَا بِكُلِّ مُمْكِنٍ. وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ، لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْعَيْنِ وَالصَّكِّ، قَالَهُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ، غَيْرَ أَنَّهُ اعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِمَا فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ لَمَّا رَجَعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ:" يَا رَبِّ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ" فَلَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ مُوسَى لَمَا صَدَقَ الْقَوْلُ مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى:" أَجِبْ رَبَّكَ" يَدُلُّ عَلَى تَعْرِيفِهِ بِنَفْسِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهَا: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان سريع الغضب، إذ غَضِبَ طَلَعَ الدُّخَانُ مِنْ قَلَنْسُوَتِهِ «١» وَرَفَعَ شَعْرُ بَدَنِهِ جُبَّتَهُ، وَسُرْعَةُ غَضَبِهِ كَانَتْ سَبَبًا لِصَكِّهِ مَلَكَ الْمَوْتِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا كَمَا تَرَى، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمُ ابْتِدَاءُ مِثْلِ هَذَا فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ. وَمِنْهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: أَنَّ مُوسَى عليه] الصلاة و [«٢» السلام عَرَفَ مَلَكَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ جَاءَ لِيَقْبِضَ رُوحَهُ لكنه جاء مجيء الجازم بِأَنَّهُ قَدْ أُمِرَ بِقَبْضِ رُوحِهِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ، وَعِنْدَ مُوسَى مَا قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ (أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ رُوحَ نَبِيٍّ حَتَّى يخبره) فَلَمَّا جَاءَهُ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي أُعْلِمَ بَادَرَ بِشَهَامَتِهِ وَقُوَّةِ نَفْسِهِ إِلَى أَدَبِهِ، فَلَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ امْتِحَانًا لِمَلَكِ الْمَوْتِ، إِذْ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُ بِالتَّخْيِيرِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا، أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ مَلَكُ الْمَوْتِ فخيره بين الحياة والموت اختار الموت


(١). القلنسوة: ما يلبس على الرأس.
(٢). من ج. [ ..... ]