للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لِلرَّجُلِ أَنْ يُقَاتِلَ عَنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ إِذَا أُرِيدَ ظُلْمًا، لِلْأَخْبَارِ الَّتِي جَاءَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخُصَّ وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ، وَلَا حَالًا دُونَ حَالٍ إِلَّا السُّلْطَانَ، فَإِنَّ جَمَاعَةَ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَالْمُجْتَمِعِينَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَمْنَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ إِلَّا بِالْخُرُوجِ عَلَى السُّلْطَانِ وَمُحَارَبَتِهِ أَنَّهُ لَا يُحَارِبُهُ وَلَا يَخْرُجُ عَلَيْهِ، لِلْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْهُمْ، مِنَ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ، وَتَرْكِ قِتَالِهِمْ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ. قُلْتُ: وَقَدِ اخْتَلَفَ مَذْهَبُنَا إِذَا طَلَبَ الشَّيْءَ الْخَفِيفَ كَالثَّوْبِ وَالطَّعَامِ هَلْ يُعْطُونَهُ أَوْ يُقَاتِلُونَ؟ وَهَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ هَلِ الْأَمْرُ بِقِتَالِهِمْ لِأَنَّهُ تَغْيِيرُ مُنْكَرٍ أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ دَفْعِ الضَّرَرِ؟ وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَنْبَنِي الْخِلَافُ فِي دَعْوَتِهِمْ قَبْلَ الْقِتَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا" لِشَنَاعَةِ الْمُحَارَبَةِ وَعِظَمِ ضَرَرِهَا، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْمُحَارَبَةُ عَظِيمَةَ الضَّرَرِ، لِأَنَّ فِيهَا سَدَّ سَبِيلِ الْكَسْبِ عَلَى النَّاسِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمَكَاسِبِ وَأَعْظَمَهَا التِّجَارَاتُ، وَرُكْنَهَا وَعِمَادَهَا الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:" وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ" «١»] المزمل: ٢٠] فَإِذَا أُخِيفَ الطَّرِيقُ انْقَطَعَ النَّاسُ عَنِ السَّفَرِ، وَاحْتَاجُوا إِلَى لُزُومِ الْبُيُوتِ، فَانْسَدَّ بَابُ التِّجَارَةِ عَلَيْهِمْ، وَانْقَطَعَتْ أَكْسَابُهُمْ، فَشَرَعَ اللَّهُ عَلَى قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الْحُدُودَ الْمُغَلَّظَةَ، وَذَلِكَ الْخِزْيُ فِي الدُّنْيَا رَدْعًا لَهُمْ عَنْ سُوءِ فِعْلِهِمْ، وَفَتْحًا لِبَابِ التِّجَارَةِ الَّتِي أَبَاحَهَا لِعِبَادِهِ لِمَنْ أَرَادَهَا مِنْهُمْ، وَوَعَدَ فِيهَا بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ فِي الْآخِرَةِ. وَتَكُونُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ خَارِجَةً عَنِ الْمَعَاصِي، وَمُسْتَثْنَاةً مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ [لَهُ] «٢» (كَفَّارَةٌ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْخِزْيُ لِمَنْ عُوقِبَ، وَعَذَابُ الْآخِرَةِ لِمَنْ سَلِمَ فِي الدُّنْيَا، وَيَجْرِي هَذَا الذَّنْبُ مَجْرَى غَيْرِهِ. وَلَا خُلُودَ لِمُؤْمِنٍ فِي النَّارِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ يَعْظُمُ عِقَابُهُ لِعِظَمِ الذَّنْبِ، ثُمَّ يُخْرَجُ إِمَّا بِالشَّفَاعَةِ وَإِمَّا بِالْقَبْضَةِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مشروط الإنفاذ بالمشيئة


(١). راجع ج ١٩ ص ٥٠.
(٢). الزيادة عن ابن عطية.