للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قُلْتُ: وَهَذَا السُّجُودُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ قَدِ اتَّخَذَهُ جُهَّالُ الْمُتَصَوِّفَةِ عَادَةً فِي سَمَاعِهِمْ وَعِنْدَ دُخُولِهِمْ عَلَى مَشَايِخِهِمْ وَاسْتِغْفَارِهِمْ، فَيُرَى الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إِذَا أَخَذَهُ الْحَالُ بِزَعْمِهِ يَسْجُدُ لِلْأَقْدَامِ «١» لِجَهْلِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ لِلْقِبْلَةِ أَمْ غَيْرِهَا جَهَالَةً مِنْهُ، ضَلَّ سَعْيُهُمْ وَخَابَ عَمَلُهُمْ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ: (إِلَّا إِبْلِيسَ) نُصِبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ، لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ اسْمُهُ عَزَازِيلَ وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ الْمَلَائِكَةِ وَكَانَ مِنَ الْأَجْنِحَةِ الْأَرْبَعَةِ ثُمَّ أَبْلَسَ بَعْدُ. رَوَى سماك ابن حَرْبٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَلَمَّا عَصَى اللَّهَ غَضِبَ عَلَيْهِ فَلَعَنَهُ فَصَارَ شَيْطَانًا. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَفْضَلِ صِنْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنَّةُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّ الْجِنَّ سِبْطٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ خُلِقُوا مِنْ نَارٍ وَإِبْلِيسُ مِنْهُمْ، وَخُلِقَ سَائِرُ «٢» الْمَلَائِكَةِ مِنْ نُورٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ أَيْضًا: إِبْلِيسُ أَبُو الْجِنِّ كَمَا أَنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ وَلَمْ يَكُنْ مَلَكًا، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ: اسْمُهُ الْحَارِثُ. وقال شهر ابن حَوْشَبٍ وَبَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: كَانَ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأَرْضِ وَقَاتَلَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ فَسَبَوْهُ صَغِيرًا وَتَعَبَّدَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ وَخُوطِبَ، وَحَكَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا مُنْقَطِعٌ، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:" مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ" [النساء: ١٥٧] وقوله:" إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ" [المائدة: ٣] فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:

لَيْسَ عَلَيْكَ عَطَشٌ وَلَا جُوعْ ... إِلَّا الرُّقَادَ وَالرُّقَادُ مَمْنُوعْ

وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ عز وجل وَصَفَ الْمَلَائِكَةَ فَقَالَ:" لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" [التحريم: ٦]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ" [الكهف: ٥٠] وَالْجِنُّ غَيْرُ الْمَلَائِكَةِ. أَجَابَ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الْأُولَى بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَخْرُجَ إِبْلِيسُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَلَائِكَةِ لِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ بِشَقَائِهِ عَدْلًا مِنْهُ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَلَيْسَ فِي خَلْقِهِ مِنْ نَارٍ وَلَا فِي تَرْكِيبِ الشَّهْوَةِ حِينَ غَضِبَ عَلَيْهِ مَا يَدْفَعُ أَنَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كان من جن الأرض فسبي،


(١). في نسخ من الأصل:" للاقدم".
(٢). في نسخ:" معاشر".