للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الثانية- قوله تعالى:" وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ" هَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْآخِذُ لَهَا وَالْمُثِيبُ عَلَيْهَا وأن الحق له عز وجل، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسِطَةٌ فَإِنْ تُوُفِّيَ فَعَامِلُهُ هُوَ الْوَاسِطَةُ بَعْدَهُ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَيٌّ لَا يَمُوتُ. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:" خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً" لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ وَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُرْبِيهَا لاحد كم كما يربي أحد كم مُهْرَهُ حَتَّى أَنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ وتصديق ذلك في كتاب اللَّهَ" هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ" وَ" يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ". قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: (لَا يَتَصَدَّقُ أَحَدٌ بِتَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ إِلَّا أَخَذَهَا اللَّهُ بِيَمِينِهِ- فِي رِوَايَةٍ- فَتَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ) الْحَدِيثَ. وَرُوِيَ (إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتَقَعُ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي كَفِّ السَّائِلِ فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ «١» أَوْ فَصِيلَهُ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ (. قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: إِنَّ هَذَا كِنَايَةٌ عَنِ الْقَبُولِ وَالْجَزَاءِ عَلَيْهَا، كَمَا كَنَّى بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ الْمُقَدَّسَةِ عَنِ المريض تعطفا عليه بقوله: (يَا بْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي) الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي [الْبَقَرَةِ]. وَخُصَّ الْيَمِينُ وَالْكَفُّ [بِالذِّكْرِ «٢»] إِذْ كُلُّ قَابِلٍ لِشَيْءٍ إِنَّمَا يَأْخُذُهُ بِكَفِّهِ وَبِيَمِينِهِ أَوْ يُوضَعُ لَهُ فِيهِ، فَخَرَجَ على ما يعرفونه، والله عز وجل مُنَزَّهٌ عَنِ الْجَارِحَةِ. وَقَدْ جَاءَتِ الْيَمِينُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بِغَيْرِ مَعْنَى الْجَارِحَةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ

أَيْ هُوَ مُؤَهَّلٌ لِلْمَجْدِ وَالشَّرَفِ، وَلَمْ يَرِدْ بِهَا يَمِينُ الْجَارِحَةِ، لِأَنَّ الْمَجْدَ مَعْنًى فَالْيَمِينُ الَّتِي تَتَلَقَّى بِهِ رَايَتُهُ مَعْنًى. وَكَذَلِكَ الْيَمِينُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى (تَرْبُو فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ) عِبَارَةٌ عَنْ كِفَّةِ الْمِيزَانِ الَّتِي تُوزَنُ فِيهَا الْأَعْمَالُ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، كَأَنَّهُ قَالَ. فَتَرْبُو كِفَّةُ مِيزَانِ الرَّحْمَنِ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي تأويل هذه


(١). الفلو: ولد الفرس.
(٢). من ج وهـ.