للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الضَّرَرَيْنِ وَأَعْظَمُهُمَا حُرْمَةً فِي الْأُصُولِ. مِثَالُ ذَلِكَ: رَجُلٌ فَتَحَ كُوَّةً فِي مَنْزِلِهِ يَطَّلِعُ مِنْهَا عَلَى دَارِ أَخِيهِ وَفِيهَا الْعِيَالُ وَالْأَهْلُ، وَمِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ فِي بُيُوتِهِنَّ إِلْقَاءُ بَعْضِ ثِيَابِهِنَّ وَالِانْتِشَارُ فِي حَوَائِجِهِنَّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى الْعَوْرَاتِ مُحَرَّمٌ وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ فِيهِ «١» فَلِحُرْمَةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَوْرَاتِ رَأَى الْعُلَمَاءُ أَنْ يُغْلِقُوا عَلَى فَاتِحِ الْبَابِ وَالْكُوَّةِ مَا فَتَحَ مِمَّا لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَرَاحَةٌ وَفِي غَلْقِهِ عَلَيْهِ ضَرَرٌ لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا إِلَى قَطْعِ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ، إذ لم يكن بد من قطع أحد هما وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي هَذَا الْبَابِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ. قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: لَوْ حَفَرَ رَجُلٌ فِي مِلْكِهِ بِئْرًا وَحَفَرَ آخَرُ فِي مِلْكِهِ بِئْرًا يَسْرِقُ مِنْهَا مَاءَ الْبِئْرِ الْأَوَّلَةِ جَازَ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَفَرَ فِي مِلْكِهِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَمِثْلُهُ عِنْدَهُمْ: لَوْ حَفَرَ إِلَى جَنْبِ بِئْرِ جَارِهِ كَنِيفًا يُفْسِدُهُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُ، لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ. وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ يَرُدَّانِ هَذَا الْقَوْلَ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ وَجْهٌ آخَرُ مِنَ الضَّرَرِ مَنَعَ الْعُلَمَاءُ مِنْهُ، كَدُخَانِ الْفُرْنِ وَالْحَمَّامِ وَغُبَارِ الْأَنْدَرِ «٢» وَالدُّودِ الْمُتَوَلِّدِ مِنَ الزِّبْلِ الْمَبْسُوطِ فِي الرِّحَابِ، وَمَا كَانَ مِثْلَ هَذَا فَإِنَّهُ يُقْطَعُ مِنْهُ مَا بَانَ ضَرَرُهُ وَخُشِيَ تَمَادِيهِ. وَأَمَّا مَا كَانَ سَاعَةً خَفِيفَةً مِثْلَ نَفْضِ الثِّيَابِ وَالْحُصْرِ عِنْدَ الْأَبْوَابِ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا غِنَى بِالنَّاسِ عَنْهُ، وليس مما يستحق به شي، فَنَفْيُ الضَّرَرِ فِي مَنْعِ مِثْلِ هَذَا أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ سَاعَةً خَفِيفَةً. وَلِلْجَارِ عَلَى جَارِهِ فِي أَدَبِ السُّنَّةِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى أَذَاهُ عَلَى مَا يَقْدِرُ كَمَا عَلَيْهِ أَلَّا يُؤْذِيَهُ وَأَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِ. السَّادِسَةُ- وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ مَسْأَلَةٌ ذَكَرَهَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ عَرَضَ لَهَا، يَعْنِي مَسًّا مِنَ الْجِنِّ، فَكَانَتْ إِذَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا وَأَجْنَبَتْ أَوْ دَنَا مِنْهَا يَشْتَدُّ ذَلِكَ بِهَا. فَقَالَ مَالِكٌ: لَا أَرَى أَنْ يَقْرَبَهَا، وَأَرَى لِلسُّلْطَانِ أن يحول بينه وبينها.


(١). في ع: عنه.
(٢). الانه ر: البيدر وهو الموضع الذي يداس فيه الطعام أي الحبوب. [ ..... ]