وَيَعْتَنِقُ الْقَبْرَ وَيَضْطَرِبُ وَيَقُولُ: يَا أُمَّاهُ! ارْفَعِي رَأْسَكَ تَرَيْ وَلَدَكَ مُكَبَّلًا مُقَيَّدًا مُسَلْسَلًا مَغْلُولًا، فَرَّقُوا بَيْنِي وَبَيْنَ وَالِدِي، فَاسْأَلِي اللَّهَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَنَا فِي مُسْتَقَرِّ رَحْمَتِهِ إِنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَتَفَقَّدَهُ الْأَسْوَدُ عَلَى الْبَعِيرِ فَلَمْ يَرَهُ، فَقَفَا أَثَرَهُ، فَإِذَا هُوَ بَيَاضٌ عَلَى قَبْرٍ، فَتَأَمَّلَهُ فَإِذَا هُوَ إِيَّاهُ، فَرَكَضَهُ بِرِجْلِهِ فِي التُّرَابِ وَمَرَّغَهُ وَضَرَبَهُ ضَرْبًا وَجِيعًا، فَقَالَ لَهُ: لَا تَفْعَلُ! وَاللَّهِ مَا هَرَبْتُ وَلَا أَبَقْتُ وَإِنَّمَا مَرَرْتُ بِقَبْرِ أُمِّي فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُوَدِّعَهَا، وَلَنْ أَرْجِعَ إِلَى مَا تَكْرَهُونَ، فَقَالَ الْأَسْوَدُ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَعَبْدُ سُوءٍ، تَدْعُو أَبَاكَ مَرَّةً وَأُمَّكَ أُخْرَى! فَهَلَّا كَانَ هَذَا عِنْدَ مَوَالِيكَ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ لِي عِنْدَكَ خَطِيئَةٌ أَخَلَقْتَ بِهَا وَجْهِي فَأَسْأَلُكَ بِحَقِ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، فَضَجَّتِ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ، وَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ: يَا يُوسُفُ! غُضَّ صَوْتَكَ فَلَقَدْ أَبْكَيْتَ مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ! أَفَتُرِيدُ أَنْ أَقْلِبَ الْأَرْضَ فَأَجْعَلُ عَالِيَهَا سَافِلَهَا؟ قَالَ: تَثَبَّتْ يَا جِبْرِيلُ، فَإِنَّ اللَّهَ حَلِيمٌ لَا يَعْجَلُ، فَضَرَبَ الْأَرْضَ بِجَنَاحِهِ فَأَظْلَمَتْ، وَارْتَفَعَ الْغُبَارُ، وَكَسَفَتِ الشَّمْسُ، وَبَقِيَتِ الْقَافِلَةُ لَا يَعْرِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَقَالَ رَئِيسُ الْقَافِلَةِ: مَنْ أَحْدَثَ مِنْكُمْ حَدَثًا؟ - فَإِنِّي أُسَافِرُ مُنْذُ كَيْتَ وَكَيْتَ مَا أَصَابَنِي قَطُّ مِثْلُ هَذَا- فَقَالَ الْأَسْوَدُ: أَنَا لَطَمْتُ ذَلِكَ الْغُلَامَ الْعِبْرَانِيَّ فَرَفَعَ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ لَا أَعْرِفُهُ، وَلَا أَشُكُّ أَنَّهُ دَعَا عَلَيْنَا، فَقَالَ لَهُ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا هَلَاكَنَا! ايتَنَا بِهِ، فَأَتَاهُ بِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا غُلَامُ! لَقَدْ لَطَمَكَ فَجَاءَنَا مَا رَأَيْتَ، فَإِنْ كُنْتَ تَقْتَصُّ فَاقْتَصَّ مِمَّنْ شِئْتَ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْفُو فَهُوَ الظَّنُّ بِكَ، قَالَ: قَدْ عَفَوْتُ رَجَاءَ أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنِّي، فَانْجَلَتِ الْغَبَرَةُ، وَظَهَرَتِ الشَّمْسُ، وَأَضَاءَ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا، وَجَعَلَ التَّاجِرُ يَزُورُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ وَيُكْرِمُهُ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى مِصْرَ فَاغْتَسَلَ فِي نِيلِهَا وَأَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُ كَآبَةَ السَّفَرِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ جَمَالَهُ، وَدَخَلَ بِهِ الْبَلَدُ نَهَارًا فَسَطَعَ نُورُهُ عَلَى الْجُدَرَانِ، وَأَوْقَفُوهُ لِلْبَيْعِ فَاشْتَرَاهُ قِطْفِيرُ وَزِيرُ الْمَلِكِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْمَلِكَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى آمَنَ وَاتَّبَعَ يُوسُفَ عَلَى دِينِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْمَلِكُ وَيُوسُفُ يَوْمئِذٍ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ، فَمَلَكَ بَعْدَهُ قَابُوسُ وَكَانَ كَافِرًا، فَدَعَاهُ يُوسُفُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَبَى. (أَكْرِمِي مَثْواهُ) أَيْ مَنْزِلَهُ وَمَقَامَهُ بِطِيبِ الْمَطْعَمِ وَاللِّبَاسِ الْحَسَنِ، وَهُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute