للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

" إِنِّي سَقِيمٌ" [الصافات: ٨٩] وَقَوْلُهُ:" بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ" وَوَاحِدَةٌ فِي شَأْنِ سارة) الحديث لفظ مسلم وإنما يَعُدَّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فِي الْكَوْكَبِ:" هَذَا رَبِّي" [الانعام: ٧٨] كَذِبَةً وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْكَذِبِ، لِأَنَّهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- كَانَ حِينَ قَالَ ذَلِكَ فِي حَالِ الطفولية، وَلَيْسَتْ حَالَةَ تَكْلِيفٍ. أَوْ قَالَ لِقَوْمِهِ مُسْتَفْهِمًا لهم على جهة التوبيخ الإنكار، وَحُذِفَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ. أَوْ عَلَى طَرِيقِ الِاحْتِجَاجِ عَلَى قَوْمِهِ: تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا يَتَغَيَّرُ لَا يَصْلُحُ لِلرُّبُوبِيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا فِي" الْأَنْعَامِ" «١» مُبَيَّنَةً وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. الثَّالِثَةُ- قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ نُكْتَةٌ عُظْمَى تَقْصِمُ الظَّهْرَ، وَهِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: (لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا فِي ثَلَاثِ كَذِبَاتٍ ثِنْتَيْنِ مَا حَلَّ بِهِمَا عَنْ دِينِ اللَّهِ وَهُمَا قَوْلُهُ" إِنِّي سَقِيمٌ" [الصافات: ٨٩] وقوله" بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ" ولم يعد [قوله «٢»] هَذِهِ أُخْتِي فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ دَفَعَ بِهَا مَكْرُوهًا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهَا حَظٌّ مِنْ صِيَانَةِ فِرَاشِهِ وَحِمَايَةِ أَهْلِهِ، لَمْ يَجْعَلْهَا فِي ذَاتِ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُجْعَلُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَذَاتِهِ إِلَّا الْعَمَلُ الْخَالِصُ مِنْ شَوَائِبِ الدُّنْيَا، وَالْمَعَارِيضُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى النَّفْسِ إِذَا خَلَصَتْ لِلدِّينِ كَانَتْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، كَمَا قَالَ:" أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ" [الزمر: ٣ («٣»]. وَهَذَا لَوْ صَدَرَ مِنَّا لَكَانَ لِلَّهِ، لَكِنْ مَنْزِلَةُ إِبْرَاهِيمَ اقْتَضَتْ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْكَذِبُ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنَ الْمَعَارِيضِ، وَإِنْ كَانَتْ مَعَارِيضَ وَحَسَنَاتٍ وَحُجَجًا فِي الْخَلْقِ وَدَلَالَاتٍ، لَكِنَّهَا أَثَّرَتْ فِي الرُّتْبَةِ، وَخَفَضَتْ عَنْ مُحَمَّدٍ الْمَنْزِلَةَ، وَاسْتَحْيَا مِنْهَا قَائِلُهَا، عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ يُشْفِقُونَ مِمَّا لَا يُشْفِقُ مِنْهُ غَيْرُهُمْ إِجْلَالًا لِلَّهِ، فَإِنَّ الَّذِي كَانَ يَلِيقُ بِمَرْتَبَتِهِ فِي النُّبُوَّةِ وَالْخُلَّةِ، أَنْ يَصْدَعَ بِالْحَقِّ وَيُصَرِّحَ بالحق لأمر كَيْفَمَا كَانَ، وَلَكِنَّهُ رُخِّصَ لَهُ فَقَبِلَ الرُّخْصَةَ فكان ما كان من القصة، والقصة وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ (إِنَّمَا اتَّخَذْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ) بِنَصْبِ وَرَاءَ فِيهِمَا على البناء كخمسة عشر، وكما قالوا


(١). راجع ج ٧ ص ٢٥ فما بعد.
(٢). الزيادة من (أحكام القرآن) لابن العربي.
(٣). راجع ج ١٥ ص ٢٣٢ فما بعد.