للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قُلْتُ: هَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" وَالصَّافَّاتِ" «١» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ أَخْلَاقِ قَوْمِهِ قَتْلُ مَنْ جَرَّبُوا عَلَيْهِ الْكَذِبَ فَخَشِيَ أَنْ يُقْتَلَ فَغَضِبَ، وَخَرَجَ فَارًّا عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ فَسَكَنَتْ وَلَمْ تَجْرِ. فَقَالَ أَهْلُهَا: أَفِيكُمْ آبِقٌ؟ فَقَالَ: أَنَا هُوَ. وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهِ مَا كَانَ، وَابْتُلِيَ بِبَطْنِ الْحُوتِ تَمْحِيصًا مِنَ الصَّغِيرَةِ كَمَا قَالَ فِي أهل أحد:" حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ" [آل عمران: ١٥٢] إلى قوله:" وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا" «٢» [آل عمران: ١٤١] فَمَعَاصِي الْأَنْبِيَاءِ مَغْفُورَةٌ، وَلَكِنْ قَدْ يَجْرِي تَمْحِيصٌ وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ زَجْرًا عَنِ الْمُعَاوَدَةِ. وَقَوْلٌ رَابِعٌ: إِنَّهُ لَمْ يُغَاضِبْ رَبَّهُ وَلَا قَوْمَهُ، وَلَا الْمَلِكَ، وَأَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِمْ غَضِبَ إِذَا أَنِفَ. وَفَاعَلَ قَدْ يَكُونُ مِنْ وَاحِدٍ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا وَعَدَ قَوْمَهُ بِالْعَذَابِ وَخَرَجَ عَنْهُمْ تَابُوا وَكُشِفَ عَنْهُمُ الْعَذَابُ، فَلَمَّا رَجَعَ وَعَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَهْلِكُوا أَنِفَ مِنْ ذَلِكَ فَخَرَجَ آبِقًا. وَيُنْشَدُ هَذَا الْبَيْتُ:

وَأَغْضَبُ أَنْ تُهْجَى تَمِيمٌ بِدَارِمِ

أَيْ آنَفُ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لِصَاحِبِ هَذَا الْقَوْلِ: إِنَّ تِلْكَ الْمُغَاضَبَةَ وإن كانت من الأنفة، فالانفة لأبد أَنْ يُخَالِطَهَا الْغَضَبُ وَذَلِكَ الْغَضَبُ وَإِنْ دَقَّ عَلَى مَنْ كَانَ؟! وَأَنْتَ تَقُولُ لَمْ يَغْضَبْ عَلَى رَبِّهِ وَلَا عَلَى قَوْمِهِ! قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ) قيل: معناه استزله إِبْلِيسُ وَوَقَعَ فِي ظَنِّهِ إِمْكَانُ أَلَّا يَقْدِرَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِمُعَاقَبَتِهِ. وَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ، لِأَنَّهُ كُفْرٌ. رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ حَكَاهُ عَنْهُ الْمَهْدَوِيُّ، وَالثَّعْلَبِيُّ عَنِ الْحَسَنِ. وذكر الثَّعْلَبِيُّ وَقَالَ عَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَعْنَاهُ: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ. قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:" اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ" «٣» [الرعد: ٢٦] أَيْ يُضَيِّقُ. وَقَوْلُهُ" وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ" «٤» [الطلاق: ٧]. قُلْتُ: وَهَذَا الْأَشْبَهُ بِقَوْلِ سَعِيدٍ وَالْحَسَنِ. وَقَدَرَ وَقُدِرَ وَقَتَرَ وَقُتِرَ بِمَعْنًى، أَيْ ضُيِّقَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْمَهْدَوِيُّ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْقَدَرِ الَّذِي هُوَ الْقَضَاءُ وَالْحُكْمُ، أَيْ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْضِيَ عَلَيْهِ بِالْعُقُوبَةِ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالْفَرَّاءُ. مَأْخُوذٌ مِنَ القدر وهو الحكم


(١). راجع ج ١٥ ص ١٢١.
(٢). راجع ج ٤ ص ٢٣٣ فما بعد.
(٣). راجع ج ٩ ص ٣١٣ فما بعد.
(٤). راجع ج ١٨ ص ١٧٠.