فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا زَنَى بَالِغٌ بِصَبِيَّةٍ، أَوْ عَاقِلٌ بِمَجْنُونَةٍ، أَوْ مُسْتَيْقِظٌ بِنَائِمَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الرَّجُلِ زِنًى، فَهَذَا زَانٍ نَكَحَ غَيْرَ زَانِيَةٍ، فَيَخْرُجُ الْمُرَادُ عَنْ بَابِهِ الَّذِي تَقَدَّمَ. قُلْنَا: هُوَ زِنًى مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا سَقَطَ فِيهِ الْحَدُّ وَالْآخَرُ ثَبَتَ فِيهِ. وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْعَقْدُ كَانَ مَعْنَاهُ: أَنَّ مُتَزَوِّجَ الزَّانِيَةِ الَّتِي قَدْ زَنَتْ وَدَخَلَ بِهَا وَلَمْ يَسْتَبْرِئْهَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الزَّانِي، إِلَّا أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا إِذَا عَقَدَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا فَذَلِكَ جَائِزٌ إِجْمَاعًا. وَقِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَنْكِحُ قَطُّ إِلَّا زَانِيَةً إِذْ قَدْ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَ زَانِيَةٍ، وَلَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ بِزَانِيَةٍ فَهُوَ زَانٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَنْكِحُ الزَّانِيَةَ إِلَّا زَانٍ، فَقُلِبَ الْكَلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَنْكِحُ الزَّانِيَةَ إِلَّا وَهُوَ رَاضٍ بِزِنَاهَا، وَإِنَّمَا يَرْضَى بِذَلِكَ إِذَا كَانَ هُوَ أَيْضًا يَزْنِي. الثَّانِيَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّزَوُّجَ بِالزَّانِيَةِ صَحِيحٌ. وَإِذَا زَنَتْ زَوْجَةُ الرَّجُلِ لَمْ يَفْسُدِ النِّكَاحُ، وَإِذَا زَنَى الزَّوْجُ لَمْ يَفْسُدْ نِكَاحُهُ مَعَ زَوْجَتِهِ، وَهَذَا عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ. وَقِيلَ إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ. وَسَيَأْتِي. الثَّالِثَةُ- رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا زَنَى بِامْرَأَةٍ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَلَدَهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ، ثُمَّ زَوَّجَ أَحَدَهُمَا مِنَ الْآخَرِ مَكَانَهُ، وَنَفَاهُمَا سَنَةً. وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُهُ سِفَاحٌ وَآخِرُهُ نِكَاحٌ. وَمَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ سَرَقَ مِنْ حَائِطٍ ثَمَرَهُ ثُمَّ أَتَى صَاحِبَ الْبُسْتَانِ فَاشْتَرَى مِنْهُ ثَمَرَهُ، فَمَا سَرَقَ حَرَامٌ وَمَا اشْتَرَى حَلَالٌ «١». وَبِهَذَا أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَرَأَوْا أَنَّ الْمَاءَ لَا حُرْمَةَ لَهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا زَنَى الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ ثُمَّ نَكَحَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُمَا زَانِيَانِ أَبَدًا. وَبِهَذَا أَخَذَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَرَأَى أَنَّهُ لَا يَنْكِحُهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا مِنْ مَائِهِ الْفَاسِدِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ لَهُ حُرْمَةٌ، وَمِنْ حُرْمَتِهِ أَلَّا يُصَبَّ عَلَى مَاءِ السِّفَاحِ، فَيَخْتَلِطَ الْحَرَامُ بِالْحَلَالِ، ويمتزج ماء المهانة بماء العزة.
(١). عبارة ابن العربي كما في أحكامه:" مثل رجل سرق ثمرة ثم اشتراها".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute