للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قَتَادَةَ فِي مَعْنَى نِصْفِ الذِّرَاعِ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذِكْرُ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إِذَا عَرَكَتْ «١» أَنْ تُظْهِرَ إِلَّا وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا إلى ها هنا) وَقَبَضَ عَلَى نِصْفِ الذِّرَاعِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ لِي بِحُكْمِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ مَأْمُورَةٌ بِأَلَّا تُبْدِيَ وَأَنْ تَجْتَهِدَ فِي الْإِخْفَاءِ لِكُلِّ مَا هُوَ زِينَةٌ، وَوَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا يَظْهَرُ بِحُكْمِ ضَرُورَةِ حَرَكَةٍ فِيمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، أَوْ إِصْلَاحِ شَأْنٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَ"- مَا ظَهَرَ" عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِمَّا تُؤَدِّي إِلَيْهِ الضَّرُورَةُ فِي النِّسَاءِ فَهُوَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ. قُلْتُ: هَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ مِنَ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ ظُهُورُهُمَا عَادَةً وَعِبَادَةً وَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إِلَيْهِمَا. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهَا: (يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا) وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ. فَهَذَا أَقْوَى مِنْ جَانِبِ الِاحْتِيَاطِ، وَلِمُرَاعَاةِ فَسَادِ النَّاسِ فَلَا تُبْدِي الْمَرْأَةُ مِنْ زِينَتِهَا إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لَا رَبَّ سِوَاهُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ مِنْ عُلَمَائِنَا: إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ جَمِيلَةً وَخِيفَ مِنْ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا الْفِتْنَةُ فَعَلَيْهَا سَتْرُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا أَوْ مُقَبَّحَةً جَازَ أَنْ تَكْشِفَ وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا. الرَّابِعَةُ- الزِّينَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: خِلْقِيَّةٌ وَمُكْتَسَبَةٌ، فَالْخِلْقِيَّةُ وَجْهُهَا فَإِنَّهُ أَصْلُ الزِّينَةِ وَجَمَالُ الْخِلْقَةِ وَمَعْنَى الْحَيَوَانِيَّةِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَطُرُقِ الْعُلُومِ. وَأَمَّا الزِّينَةُ الْمُكْتَسَبَةُ فَهِيَ مَا تُحَاوِلُهُ الْمَرْأَةُ فِي تَحْسِينِ خِلْقَتِهَا، كَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالْكُحْلِ وَالْخِضَابِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى:" خُذُوا زِينَتَكُمْ «٢» " [الأعراف: ٣١]. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

يَأْخُذْنَ زِينَتَهُنَّ أَحْسَنَ مَا تَرَى ... وَإِذَا عَطِلْنَ فَهُنَّ خَيْرُ عَوَاطِلِ

الْخَامِسَةُ- مِنَ الزِّينَةِ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ، فَمَا ظَهَرَ فَمُبَاحٌ أَبَدًا لِكُلِّ النَّاسِ مِنَ الْمَحَارِمِ وَالْأَجَانِبِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ. وَأَمَّا مَا بَطَنَ فَلَا يَحِلُّ إِبْدَاؤُهُ إِلَّا لِمَنْ سَمَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى في هذه


(١). عركت المرأة: حاضت.
(٢). راجع ج ٧ ص ١٨٨ فما بعد.