الثَّامِنَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) أَيْ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ بَلَاءٍ وَامْتِحَانٍ، فَأَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ الْعَبِيدِ فِتْنَةً لِبَعْضٍ عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ النَّاسِ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، فَالصَّحِيحُ فِتْنَةٌ لِلْمَرِيضِ، وَالْغَنِيُّ فِتْنَةٌ لِلْفَقِيرِ، وَالْفَقِيرُ الصَّابِرُ فِتْنَةٌ لِلْغَنِيِّ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُخْتَبَرٌ بِصَاحِبِهِ، فَالْغَنِيُّ مُمْتَحَنٌ بِالْفَقِيرِ، عَلَيْهِ أَنْ يُوَاسِيَهُ وَلَا يَسْخَرَ مِنْهُ. وَالْفَقِيرُ مُمْتَحَنٌ بِالْغَنِيِّ، عَلَيْهِ أَلَّا يَحْسُدَهُ. وَلَا يَأْخُذَ مِنْهُ إِلَّا مَا أَعْطَاهُ، وَأَنْ يَصْبِرَ كُلُّ واحد منها عَلَى الْحَقِّ، كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ فِي مَعْنَى" أَتَصْبِرُونَ": أَيْ عَلَى الْحَقِّ. وَأَصْحَابُ الْبَلَايَا يَقُولُونَ: لِمَ لَمْ نُعَافَ؟ وَالْأَعْمَى يَقُولُ: لِمَ لَمْ أُجْعَلْ كَالْبَصِيرِ؟ وَهَكَذَا صَاحِبُ كُلِّ آفَةٍ. وَالرَّسُولُ الْمَخْصُوصُ بِكَرَامَةِ النُّبُوَّةِ فِتْنَةٌ لِأَشْرَافِ النَّاسِ مِنَ الْكُفَّارِ فِي عَصْرِهِ. وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ وَحُكَّامُ الْعَدْلِ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ:" لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. فَالْفِتْنَةُ أن يحسد المبتلى المعافى. والصبر: أن يحبس كلاهما نفسه، هدا عَنِ الْبَطَرِ، وَذَاكَ عَنِ الضَّجَرِ." أَتَصْبِرُونَ" مَحْذُوفُ الْجَوَابِ، يَعْنِي أَمْ لَا تَصْبِرُونَ. فَيَقْتَضِي جَوَابًا كما قاله الْمُزَنِيُّ، وَقَدْ أَخْرَجَتْهُ الْفَاقَةُ فَرَأَى خَصِيًّا فِي مراكب ومناكب، فخطر بباله شي فسمع من يفرا الْآيَةَ" أَتَصْبِرُونَ" فَقَالَ: بَلَى رَبَّنَا! نَصْبِرُ وَنَحْتَسِبُ. وَقَدْ تَلَا ابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبُ مَالِكٍ هَذِهِ الْآيَةَ حِينَ رَأَى أَشْهَبَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي مَمْلَكَتِهِ عَابِرًا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَجَابَ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ: سَنَصْبِرُ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" وَيْلٌ لِلْعَالِمِ مِنَ الْجَاهِلِ وَوَيْلٌ لِلْجَاهِلِ مِنَ الْعَالِمِ وَوَيْلٌ لِلْمَالِكِ مِنَ الْمَمْلُوكِ وَوَيْلٌ لِلْمَمْلُوكِ مِنَ الْمَالِكِ وَوَيْلٌ لِلشَّدِيدِ مِنَ الضَّعِيفِ وَوَيْلٌ لِلضَّعِيفِ مِنَ الشَّدِيدِ وَوَيْلٌ لِلسُّلْطَانِ مِنَ الرَّعِيَّةِ وَوَيْلٌ لِلرَّعِيَّةِ مِنَ السُّلْطَانِ وَبَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةٌ وَهُوَ قَوْلُهُ" وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ" أَسْنَدَهُ الثَّعْلَبِيُّ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نزلت في أبى جهل ابن هِشَامٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَالْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ والنصر ابن الحرث حِينَ رَأَوْا أَبَا ذَرٍّ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارًا وَبِلَالًا وَصُهَيْبًا وَعَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ وَسَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَمَهْجَعًا مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَجَبْرًا مَوْلَى الْحَضْرَمِيِّ، وَذَوِيهِمْ فَقَالُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ: أَنُسْلِمُ فَنَكُونُ مِثْلَ هَؤُلَاءِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى يُخَاطِبُ هَؤُلَاءِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute