وَالْجَانِيَ بِذَلِكَ، لِيَعْلَمَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُنَبِّهَهُ لِمَسْأَلَتِهِ رَبَّهُ فِي عَذَابِ أَهْلِ قَرْيَةٍ وَفِيهِمُ الْمُطِيعُ وَالْعَاصِي. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ كَانَتِ الْعُقُوبَةُ لِلْحَيَوَانِ بِالتَّحْرِيقِ جَائِزَةً فِي شَرْعِهِ، فَلِذَلِكَ إِنَّمَا عَاتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي إِحْرَاقِ الْكَثِيرِ مِنَ النَّمْلِ لَا فِي أَصْلِ الْإِحْرَاقِ. أَلَا تَرَى قَوْلَهُ:" فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً" أَيْ هَلَّا حَرَّقْتَ نَمْلَةً وَاحِدَةً. وَهَذَا بِخِلَافِ شَرْعِنَا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى عَنْ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ. وَقَالَ" لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا اللَّهُ". وَكَذَلِكَ أَيْضًا كَانَ قَتْلُ النَّمْلِ مُبَاحًا فِي شَرِيعَةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْتِبْهُ عَلَى أَصْلِ قَتْلِ النَّمْلِ. وَأَمَّا شَرْعُنَا فَقَدْ جَاءَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ. وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ قَتْلَ النَّمْلِ إِلَّا أَنْ يَضُرَّ وَلَا يُقْدَرُ عَلَى دَفْعِهِ إِلَّا بِالْقَتْلِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ إِنَّمَا عَاتَبَهُ اللَّهُ حَيْثُ انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ بِإِهْلَاكِ جَمْعٍ آذَاهُ وَاحِدٌ، وَكَانَ الْأَوْلَى الصَّبْرَ وَالصَّفْحَ، لَكِنْ وَقَعَ لِلنَّبِيِّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مُؤْذٍ لِبَنِي آدَمَ، وَحُرْمَةُ بَنِي آدَمَ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ غَيْرِ النَّاطِقِ، فَلَوِ انْفَرَدَ لَهُ هَذَا النَّظَرُ وَلَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ التَّشَفِّي الطَّبْعِيُّ لَمْ يُعَاتَبْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. لَكِنْ لَمَّا انْضَافَ إِلَيْهِ التَّشَفِّي الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْحَدِيثِ عُوتِبَ عَلَيْهِ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ:" أَفِي أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَهْلَكْتَ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ" مُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ تَسْبِيحٌ بِمَقَالٍ وَنُطْقٍ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنِ النَّمْلِ أَنَّ لَهَا مَنْطِقًا وَفَهِمَهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَهَذَا مُعْجِزَةٌ لَهُ- وَتَبَسَّمَ مِنْ قَوْلِهَا. وَهَذَا يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً أَنَّ لِلنَّمْلِ نُطْقًا وَقَوْلًا، لَكِنْ لَا يَسْمَعُهُ كُلُّ أَحَدٍ، بَلْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِمَّنْ خَرَقَ لَهُ الْعَادَةَ مِنْ نَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ. وَلَا نُنْكِرُ هَذَا مِنْ حَيْثُ أَنَّا لَا نَسْمَعُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْإِدْرَاكِ عَدَمُ الْمُدْرَكِ فِي نَفْسِهِ. ثُمَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ قَوْلًا وَكَلَامًا وَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ إِلَّا إِذَا نَطَقَ بِلِسَانِهِ. وَقَدْ خَرَقَ اللَّهُ الْعَادَةَ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْمَعَهُ كَلَامَ النَّفْسِ مِنْ قَوْمٍ تَحَدَّثُوا مَعَ أَنْفُسِهِمْ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ، كَمَا قد نقل منه الكثير من أَئِمَّتُنَا فِي كُتُبِ مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِمَّنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَوْلِيَاءِ مِثْلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَا قَضِيَّةٍ. وَإِيَّاهُ عَنَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ:" إِنَّ فِي أُمَّتِي مُحَدَّثِينَ وَإِنَّ عُمَرَ مِنْهُمْ". وَقَدْ مَضَى هَذَا المعنى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute