للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَاسِخٌ لِلتَّوَارُثِ بِالْهِجْرَةِ. حَكَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ نَزَلَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ" وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا" «١» [الأنفال: ٧٢] فَتَوَارَثَ الْمُسْلِمُونَ بِالْهِجْرَةِ، فَكَانَ لَا يَرِثُ الْأَعْرَابِيُّ الْمُسْلِمُ مِنْ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ الْمُهَاجِرِ شَيْئًا حَتَّى يُهَاجِرَ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بقوله:" وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ". الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ نَاسِخٌ لِلتَّوَارُثِ بِالْحِلْفِ وَالْمُؤَاخَاةِ فِي الدِّينِ، رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الزُّبَيْرِ:" وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ" وَذَلِكَ أَنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ قَدِمْنَا وَلَا أَمْوَالَ لَنَا، فَوَجَدْنَا الْأَنْصَارَ نِعْمَ الْإِخْوَانُ فَآخَيْنَاهُمْ فَأَوْرَثُونَا وَأَوْرَثْنَاهُمْ، فَآخَى أَبُو بَكْرٍ خَارِجَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَآخَيْتُ أَنَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، فَجِئْتُ فَوَجَدْتُ السِّلَاحَ قَدْ أَثْقَلَهُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ مَاتَ عَنِ الدُّنْيَا مَا وَرِثَهُ غَيْرِي، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ فَرَجَعْنَا إِلَى مُوَارِثِنَا. وَثَبَتَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى بَيْنَ الزُّبَيْرِ وَبَيْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، فَارْتُثَّ «٢» كَعْبٌ يَوْمَ أُحُدٍ فَجَاءَ الزُّبَيْرُ يَقُودُهُ بِزِمَامِ رَاحِلَتِهِ، فَلَوْ مَاتَ يَوْمَئِذٍ كَعْبٌ عَنِ الضِّحِّ «٣» وَالرِّيحِ لورثه الزبير، فأنزل الله تعالى:" وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ". فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْقَرَابَةَ أَوْلَى مِنَ الْحِلْفِ، فَتُرِكَتِ الْوِرَاثَةُ بِالْحِلْفِ وَوُرِّثُوا بِالْقَرَابَةِ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْأَنْفَالِ" «٤» الْكَلَامُ فِي تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ. وَقَوْلُهُ:" فِي كِتابِ اللَّهِ" يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ الْقُرْآنَ، وَيَحْتَمِلَ أَنْ يُرِيدَ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ الَّذِي قَضَى فِيهِ أَحْوَالَ خَلْقِهِ. وَ" مِنَ المؤمنين" متعلق ب"- أولى" لا بقوله:" وَأُولُوا الْأَرْحامِ" بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يُوجِبُ تَخْصِيصًا بِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا خِلَافَ فِي عُمُومِهَا، وَهَذَا حل إشكالها، قاله ابن العربي. النحاس:" وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ" يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ" مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" ب"- أُولُوا" فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَأُولُو الْأَرْحَامِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَوْلَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَاهُ: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بعضهم أولى


(١). راجع ج ٨ ص ٥٥ فما بعد.
(٢). الارتثاث: أن يحمل الجريح من المعركة وهو ضعيف قد أثخنته الجراح. [ ..... ]
(٣). الضح (بالكسر): ضوء الشمس إذا استمكن من الأرض. أراد لو مات عما طلعت عليه الشمس وجرت عليه الريح وكنى بهما عن كثرة المال.
(٤). راجع ج ٨ ص ٥٩.