للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

خِلَافَ بَيْنِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ شَرَائِعَ الْأَنْبِيَاءِ قُصِدَ بِهَا مَصَالِحُ الْخَلْقِ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَلْزَمُ الْبَدَاءُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَآلِ الْأُمُورِ، وَأَمَّا الْعَالِمُ بِذَلِكَ فَإِنَّمَا تَتَبَدَّلُ خِطَابَاتُهُ بِحَسَبِ تَبَدُّلِ الْمَصَالِحِ، كَالطَّبِيبِ الْمُرَاعِي أَحْوَالَ الْعَلِيلِ، فَرَاعَى ذَلِكَ فِي خَلِيقَتِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَخِطَابُهُ يَتَبَدَّلُ، وَعِلْمُهُ وَإِرَادَتُهُ لَا تَتَغَيَّرُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ فِي جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَجَعَلَتِ الْيَهُودُ النَّسْخَ وَالْبَدَاءَ شَيْئًا وَاحِدًا، وَلِذَلِكَ لَمْ يُجَوِّزُوهُ فَضَلُّوا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّسْخِ وَالْبَدَاءِ أَنَّ النَّسْخَ تَحْوِيلُ العبادة من شي إلى شي قَدْ كَانَ حَلَالًا فَيُحَرَّمُ، أَوْ كَانَ حَرَامًا فَيُحَلَّلُ. وَأَمَّا الْبَدَاءُ فَهُوَ تَرْكُ مَا عُزِمَ عَلَيْهِ، كَقَوْلِكَ: امْضِ إِلَى فُلَانٍ الْيَوْمَ، ثُمَّ تَقُولُ لَا تَمْضِ إِلَيْهِ، فَيَبْدُو لَكَ الْعُدُولُ عَنِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا يَلْحَقُ الْبَشَرَ لِنُقْصَانِهِمْ. وَكَذَلِكَ إِنْ قُلْتَ: ازْرَعْ كَذَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ قُلْتَ: لَا تَفْعَلْ، فَهُوَ الْبَدَاءُ. الْخَامِسَةُ- اعْلَمْ أَنَّ النَّاسِخَ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَيُسَمَّى الْخِطَابُ الشَّرْعِيُّ نَاسِخًا تَجَوُّزًا، إِذْ بِهِ يَقَعُ النَّسْخُ، كَمَا قَدْ يُتَجَوَّزُ فَيُسَمَّى الْمَحْكُومُ فِيهِ نَاسِخًا، فَيُقَالُ: صَوْمُ رَمَضَانَ نَاسِخٌ لِصَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَالْمَنْسُوخُ هُوَ الْمُزَالُ، وَالْمَنْسُوخُ عَنْهُ هُوَ الْمُتَعَبِّدُ بِالْعِبَادَةِ الْمُزَالَةِ، وَهُوَ الْمُكَلَّفُ. السَّادِسَةُ- اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ أَئِمَّتِنَا فِي حَدِّ النَّاسِخِ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْحُذَّاقُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ إِزَالَةُ مَا قَدِ اسْتَقَرَّ مِنَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِخِطَابٍ وَارِدٍ مُتَرَاخِيًا، هَكَذَا حَدَّهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَزَادَا: لَوْلَاهُ لَكَانَ السَّابِقُ ثَابِتًا، فَحَافَظًا عَلَى مَعْنَى النَّسْخِ اللُّغَوِيِّ، إِذْ هُوَ بِمَعْنَى الرَّفْعِ وَالْإِزَالَةِ، وَتَحَرُّزًا مِنَ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ، وَذَكَرَ الْخِطَابَ لِيَعُمَّ وُجُوهَ الدَّلَالَةِ مِنَ النَّصِّ وَالظَّاهِرِ وَالْمَفْهُومِ وَغَيْرِهِ، وَلِيُخْرِجَ الْقِيَاسَ وَالْإِجْمَاعَ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ النَّسْخُ فِيهِمَا وَلَا بِهِمَا. وَقَيَّدَا بِالتَّرَاخِي، لِأَنَّهُ لَوِ اتَّصَلَ بِهِ لَكَانَ بَيَانًا لِغَايَةِ الْحُكْمِ لَا نَاسِخًا، أَوْ يكون آخر الكلام يرفع أوله، كقولك: قُمْ لَا تَقُمْ. السَّابِعَةُ- الْمَنْسُوخُ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا أَهْلِ السُّنَّةِ هُوَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ نَفْسُهُ لَا مِثْلُهُ، كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَنَّهُ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ بِالنَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ زَائِلٌ. وَالَّذِي