إياكم إذ أنتم في الدنيا وقد بعث إليكم الرسل فلم تؤمنوا أشد من مقتكم أنفسكم اليوم. وقال الحسن: يعطون كتابهم فإذا نظروا إلى سيئاتهم مقتوا أنفسهم فينادون" لَمَقْتُ اللَّهِ" إِيَّاكُمْ فِي الدُّنْيَا" إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ"" أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ" الْيَوْمَ. وَقَالَ مَعْنَاهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمَعْنَى" لَمَقْتُ اللَّهِ" لَكُمْ" إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ"" أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ" إِذْ عَايَنْتُمُ النَّارَ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَمْقُتُوا أَنْفُسَهُمْ؟ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ أَحَلُّوهَا بِالذُّنُوبِ مَحَلَّ الْمَمْقُوتِ. الثَّانِي أَنَّهُمْ لَمَّا صَارُوا إِلَى حَالٍ زَالَ عَنْهُمُ الْهَوَى، وَعَلِمُوا أَنَّ نُفُوسَهُمْ هِيَ الَّتِي أَبْقَتْهُمْ فِي الْمَعَاصِي مَقَتُوهَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: إِنَّ أَهْلَ النَّارِ لَمَّا يَئِسُوا مِمَّا عِنْدَ الْخَزَنَةِ وَقَالَ لَهُمْ مَالِكٌ:" إِنَّكُمْ ماكِثُونَ" عَلَى مَا يَأْتِي. قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَا هَؤُلَاءِ إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالْبَلَاءِ مَا قَدْ تَرَوْنَ، فَهَلُمَّ فَلْنَصْبِرْ فَلَعَلَّ الصَّبْرَ يَنْفَعُنَا، كَمَا صَبَرَ أَهْلُ الطَّاعَةِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَنَفَعَهُمُ الصَّبْرُ إِذْ صَبَرُوا، فَأَجْمَعُوا رَأْيَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ فَصَبَرُوا فَطَالَ صَبْرُهُمْ، ثُمَّ جَزِعُوا فَنَادَوْا" سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ" [إبراهيم: ٢١] أَيْ مِنْ مَلْجَأٍ، فَقَالَ إِبْلِيسُ عِنْدَ ذَلِكَ:" إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ" [إبراهيم: ٢٢] إِلَى قَوْلِهِ:" مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ" [إبراهيم: ٢٢] يَقُولُ: بِمُغْنٍ عَنْكُمْ شَيْئًا" إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ" [إبراهيم: ٢٢] فَلَمَّا سَمِعُوا مَقَالَتَهُ مَقَتُوا أَنْفُسَهُمْ. قَالَ: فَنُودُوا" لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ" إِلَى قَوْلِهِ:" فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ" قَالَ فَرُدَّ عَلَيْهِمْ:" ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ" ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ" اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ:" أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ" فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: كَانُوا أَمْوَاتًا فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ثُمَّ أَمَاتَهُمُ الْمَوْتَةَ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ أحياهم للبعث والقيامة، فهاتان حياتان موتتان، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ" [البقرة: ٢٨]. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أُمِيتُوا فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ فِي الْقُبُورِ لِلْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ أُمِيتُوا ثُمَّ أُحْيُوا فِي الْآخِرَةِ. وَإِنَّمَا صَارَ إِلَى هَذَا، لِأَنَّ لَفْظَ الْمَيِّتِ لَا يَنْطَلِقُ فِي الْعُرْفِ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute