للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَإِنَّ ذَلِكَ يُبْعِدُ كَوْنَهُ مَقْصُودًا لِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُقَالَ: طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ فِي شَرْعِهِ تَحْرِيمُ قَتْلِ مَنِ الْتَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ، هَذَا بَعِيدٌ جِدًّا. الثَّانِي- أَنَّ مَكَّةَ كَانَتْ حَلَالًا قَبْلَ دَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَسَائِرِ الْبِلَادِ، وَأَنَّ بِدَعْوَتِهِ صَارَتْ حَرَمًا آمِنًا كَمَا صَارَتْ الْمَدِينَةُ بِتَحْرِيمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمِنًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ حَلَالًا. احْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الْأُولَى بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ (إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يُعْضَدُ «١» شَوْكُهُ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا «٢» (فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا الْإِذْخِرُ «٣» فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ، فَقَالَ:) إِلَّا الْإِذْخِرُ (. وَنَحْوُهُ حَدِيثُ أَبِي شُرَيْحٍ، أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَدَعَا لِأَهْلِهَا وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ وَإِنِّي دَعَوْتُ فِي صَاعِهَا وَمُدَّهَا بِمِثْلَيْ مَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ مَكَّةَ (. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:" وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ إِخْبَارٌ بِسَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ فِيهَا وَقَضَائِهِ، وَكَوْنُ الْحُرْمَةِ مُدَّةُ آدَمَ وَأَوْقَاتُ عِمَارَةِ الْقُطْرِ بِإِيمَانٍ. وَالثَّانِي إِخْبَارٌ بِتَجْدِيدِ إِبْرَاهِيمَ لِحُرْمَتِهَا وَإِظْهَارِهِ ذَلِكَ بَعْدَ الدُّثُورِ، وَكَانَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَانِيَ يَوْمِ الْفَتْحِ إِخْبَارًا بِتَعْظِيمِ حُرْمَةِ مَكَّةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِإِسْنَادِ التَّحْرِيمِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ عِنْدَ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ مِثَالًا لِنَفْسِهِ، وَلَا مَحَالَةَ أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَدِينَةِ هُوَ أَيْضًا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ نَافِذِ قَضَائِهِ وَسَابِقِ عِلْمِهِ". وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: كَانَتْ مَكَّةُ حَرَامًا فَلَمْ يَتَعَبَّدِ اللَّهُ الْخَلْقَ بذلك حتى سأله إبراهيم فحرمها.


(١). لا يعضد: لا يقطع.
(٢). الخلى (مقصور): النبات الرطب الرقيق ما دام رطبا، واختلاؤه: قطعه.
(٣). الإذخر (بكسر الهمزة والخاء): حشيشة طيبة الرائحة يسقف بها البيوت فوق الخشب، ويحرق بدل الخشب والفحم. والقين: الحداد.