للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الرَّابِعَةُ- أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ هَذَا نَاسِخٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَاهَدَ عَلَيْهِ قُرَيْشًا، مِنْ أَنَّهُ يَرُدُّ إِلَيْهِمْ مَنْ جَاءَهُ مِنْهُمْ مُسْلِمًا، فَنُسِخَ مِنْ ذَلِكَ النِّسَاءُ. وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَرَى نَسْخَ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كُلُّهُ مَنْسُوخٌ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُهَادِنَ الْإِمَامُ الْعَدُوَّ عَلَى أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا، لِأَنَّ إِقَامَةَ الْمُسْلِمِ بِأَرْضِ الشِّرْكِ لَا تَجُوزُ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ. وَعَقْدُ الصُّلْحِ عَلَى ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ. وَقَدِ احْتَجَّ الْكُوفِيُّونَ لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِحَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ إِلَى قَوْمٍ مِنْ خَثْعَمَ فَاعْتَصَمُوا بِالسُّجُودِ فَقَتَلَهُمْ، فَوَدَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنِصْفِ الدِّيَةِ، وَقَالَ" أنا برئ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَقَامَ مَعَ مُشْرِكٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَرَاءَى نَارُهُمَا»

قَالُوا: فَهَذَا نَاسِخٌ لِرَدِّ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، إِذْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بَرِئَ مِمَّنْ أَقَامَ مَعَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ غَيْرُ مَنْسُوخٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَيْسَ لِأَحَدٍ هَذَا الْعَقْدُ إِلَّا الْخَلِيفَةُ أَوْ رَجُلٌ يَأْمُرُهُ، لِأَنَّهُ يَلِي الْأَمْوَالَ كُلَّهَا. فَمَنْ عَقَدَ غَيْرَ الْخَلِيفَةِ هَذَا الْعَقْدَ فَهُوَ مَرْدُودٌ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ) أَيْ هَذَا الِامْتِحَانُ لَكُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ، لِأَنَّهُ مُتَوَلِّي السَّرَائِرَ. (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) أَيْ بِمَا يَظْهَرُ مِنَ الْإِيمَانِ. وَقِيلَ: إِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ قَبْلَ الِامْتِحَانِ (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) أَيْ لَمْ يَحِلَّ اللَّهُ مُؤْمِنَةً لِكَافِرٍ، وَلَا نِكَاحَ مُؤْمِنٍ لِمُشْرِكَةٍ. وَهَذَا أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَوْجَبَ فُرْقَةَ الْمُسْلِمَةِ مِنْ زَوْجِهَا إِسْلَامُهَا لَا هِجْرَتُهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَهُمَا هُوَ اخْتِلَافُ الدارين. وإليه إشارة في مذهب مالك


(١). الأصل في" تراءى" تتراءى. والترائي تفاعل من الرؤية، يقال: تراءى القوم إذا رأى بعضهم بعضا وإسناد الترائي إلى النارين مجاز. أي يلزم المسلم ويجب عليه أن يباعد منزله عن منزل المشرك، ولا ينزل بالموضع الذي إذا أوقدت فيه ناره تلوح وتظهر لنار المشرك إذا أوقدها في منزله. ولكنه ينزل مع المسلمين في دارهم. وإنما كره مجاورة المشركين لأنهم لا عهد لهم ولا أمان وحث المسلمين على الهجرة. (عن نهاية ابن الأثير).