للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قَالَ ابْنُ دِرْبَاسٍ: وَقَدْ أَكْثَرَ أَهْلُ الزَّيْغِ الْقَوْلَ عَلَى مَنْ تَمَسْكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّهُمْ مُقَلِّدُونَ. وَهَذَا خَطَأٌ مِنْهُمْ، بَلْ هُوَ بِهِمْ أَلْيَقُ وَبِمَذَاهِبِهِمْ أَخْلَقُ، إِذْ قَبِلُوا قَوْلَ سَادَاتِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ فِيمَا خَالَفُوا فِيهِ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَكَانُوا دَاخِلِينَ فِيمَنْ ذَمَّهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ:" رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا" إِلَى قَوْلِهِ:" كَبِيراً «١» " وَقَوْلِهِ:" إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ «٢» ". ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ:" قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ «٣» " ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ" فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ «٤» " الْآيَةَ. فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْهُدَى فِيمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَلَيْسَ قَوْلُ أَهْلِ الْأَثَرِ فِي عَقَائِدِهِمْ: إِنَّا وَجَدْنَا أَئِمَّتَنَا وَآبَاءَنَا وَالنَّاسَ عَلَى الْأَخْذِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الْأُمَّةِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا وأَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا بِسَبِيلٍ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ نَسَبُوا ذَلِكَ إِلَى التَّنْزِيلِ وَإِلَى مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ، وَأُولَئِكَ نَسَبُوا إِفْكَهُمْ إِلَى أَهْلِ الْأَبَاطِيلِ، فَازْدَادُوا بِذَلِكَ فِي التَّضْلِيلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَثْنَى عَلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْقُرْآنِ حَيْثُ قَالَ:" إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ «٥» ". فَلَمَّا كَانَ آبَاؤُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَنْبِيَاءَ مُتَّبِعِينَ لِلْوَحْيِ وَهُوَ الدِّينُ الْخَالِصُ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ، كَانَ اتِّبَاعُهُ آبَاءَهُ مِنْ صِفَاتِ الْمَدْحِ. وَلَمْ يَجِئْ فِيمَا جَاءُوا بِهِ ذِكْرَ الْأَعْرَاضِ وَتَعَلُّقَهَا بِالْجَوَاهِرِ وَانْقِلَابَهَا فِيهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَا هُدَى فِيهَا وَلَا رُشْدَ فِي وَاضِعِيهَا. قَالَ ابْنُ الْحَصَّارِ: وَإِنَّمَا ظَهَرَ التَّلَفُّظُ بِهَا فِي زَمَنِ الْمَأْمُونِ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ لَمَّا تُرْجِمَتْ كُتُبُ الْأَوَائِلِ وَظَهَرَ فِيهَا اخْتِلَافُهُمْ فِي قِدَمِ الْعَالَمِ وَحُدُوثِهِ. وَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْجَوْهَرِ وَثُبُوتِهِ، وَالْعَرَضِ وَمَاهِيَّتِهِ، فَسَارَعَ الْمُبْتَدِعُونَ وَمَنْ فِي قَلْبِهِ زَيْغٌ إِلَى حِفْظِ تِلْكَ الِاصْطِلَاحَاتِ، وَقَصَدُوا بِهَا الْإِغْرَابَ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، وَإِدْخَالَ الشُّبَهِ عَلَى الضُّعَفَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ. فَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ ظَهَرَتِ الْبِدْعَةُ، وَصَارَتْ لِلْمُبْتَدِعَةِ شِيعَةٌ، وَالْتَبَسَ الْأَمْرُ عَلَى السُّلْطَانِ، حَتَّى قَالَ الْأَمِيرُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَجَبَرَ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَضُرِبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ على ذلك.


(١). راجع ج ١٤ ص ٢٤٩.
(٢). راجع ج ١٦ ص ٧٤ فما بعدها.
(٣). راجع ج ٩ ص ١٩١.
(٤). راجع ج ١٦ ص ٧٤ فما بعدها.
(٥). راجع ج ٩ ص ١٩١.