للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ [فَانْطَلَقَ بِنَا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ، وَسَأَلُوهُ الزَّادَ وَكَانُوا مِنْ جِنِّ الْجَزِيرَةِ، فَقَالَ: (لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا، فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمُ الْجِنِّ) قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَابْنُ مَسْعُودٍ أَعْرَفُ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ شَاهَدَهُ وَابْنُ عَبَّاسٍ سَمِعَهُ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْجِنَّ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُفْعَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا بِمَكَّةَ وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ، وَالثَّانِيَةُ بِنَخْلَةَ وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الَّذِي حَكَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ إِنَّمَا هُوَ فِي أَوَّلِ مَا سَمِعَتِ الْجِنُّ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِمَتْ بِحَالِهِ، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَقْرَأْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَرَهُمْ كَمَا حَكَاهُ، ثُمَّ أَتَاهُ دَاعِي الْجِنِّ مَرَّةً أُخْرَى فَذَهَبَ مَعَهُ وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ كَمَا حَكَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَالْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَكُنْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ، وَإِنَّمَا سَارَ مَعَهُ حِينَ انْطَلَقَ بِهِ وَبِغَيْرِهِ يُرِيهِ آثَارَ الْجِنِّ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ لَيْلَتَئِذٍ، وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ" الْأَحْقَافِ" وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:" أمرت أَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ عَلَى الْجِنِّ فَمَنْ يَذْهَبُ مَعِي؟ " فَسَكَتُوا، ثُمَّ قَالَ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ، ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَا أَذْهَبُ مَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَانْطَلَقَ حَتَّى جَاءَ الْحَجُونَ عِنْدَ شِعْبِ أَبِي دُبٍّ «١» فَخَطَّ عَلَيَّ خَطًّا فَقَالَ: (لَا تُجَاوِزْهُ) ثُمَّ مَضَى إِلَى الْحَجُونَ فَانْحَدَرَ عَلَيْهِ أَمْثَالُ الْحَجَلِ يَحْدُرُونَ «٢» الْحِجَارَةَ بِأَقْدَامِهِمْ، يَمْشُونَ يَقْرَعُونَ فِي دُفُوفِهِمْ كَمَا تَقْرَعُ النِّسْوَةُ فِي دُفُوفِهَا، حَتَّى غَشَوْهُ فَلَا أَرَاهُ، فَقُمْتُ فَأَوْمَى إِلَيَّ بِيَدِهِ أَنِ اجْلِسْ، فَتَلَا الْقُرْآنَ فَلَمْ يَزَلْ صَوْتُهُ يَرْتَفِعُ، وَلَصِقُوا بِالْأَرْضِ حَتَّى مَا أَرَاهُمْ، فَلَمَّا انْفَتَلَ إِلَيَّ قَالَ:" أَرَدْتَ أَنْ تَأْتِيَنِي"؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:" مَا كَانَ ذَلِكَ لَكَ، هَؤُلَاءِ الْجِنُّ أَتَوْا يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ فَسَأَلُونِي الزَّادَ فَزَوَّدْتُهُمُ الْعَظْمَ وَالْبَعْرَ فَلَا يَسْتَطِيبَنَّ أَحَدُكُمْ بِعَظْمٍ وَلَا بعر".


(١). شعب أبي دب يقال فيه مدفن آمنة بنت وهب أم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(٢). يحدرون الحجارة بضم الدال وكسرها: يحطونها من علو إلى سفل.