للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قُلْتُ: وَهَذَا حَسَنٌ فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ اللَّيْلَ ذَكَرَ النَّهَارَ، إِذْ هُوَ قَسِيمُهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ [الفرقان: ٦٢] عَلَى مَا تَقَدَّمَ «١». الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) التَّبَتُّلُ: الِانْقِطَاعُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَيِ انْقَطِعْ بِعِبَادَتِكَ إِلَيْهِ، وَلَا تُشْرِكْ بِهِ غَيْرَهُ. يُقَالُ: بَتَلْتُ الشَّيْءَ أَيْ قَطَعْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ. طَلَّقَهَا بَتَّةً بَتْلَةً، وَهَذِهِ صَدَقَةٌ بَتَّةٌ بَتْلَةٌ، أَيْ بَائِنَةٌ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ صَاحِبِهَا،، أَيْ قُطِعَ مِلْكُهُ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَمِنْهُ مَرْيَمُ الْبَتُولُ لِانْقِطَاعِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيُقَالُ لِلرَّاهِبِ مُتَبَتِّلٌ، لِانْقِطَاعِهِ عَنِ النَّاسِ، وَانْفِرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ، قَالَ:

تُضِيءُ الظَّلَامَ بِالْعِشَاءِ كَأَنَّهَا ... مَنَارَةُ مُمْسَى رَاهِبٍ مُتَبَتِّلِ «٢»

وَفِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنِ التَّبَتُّلِ، وَهُوَ الِانْقِطَاعُ عَنِ النَّاسِ وَالْجَمَاعَاتِ. وَقِيلَ: إِنَّ أَصْلَهُ عِنْدَ الْعَرَبِ التَّفَرُّدُ، قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ. وَالْأَوَّلُ أَقْوَى لِمَا ذَكَرْنَا. وَيُقَالُ: كَيْفَ قَالَ: تَبْتِيلًا، وَلَمْ يَقُلْ تَبَتُّلًا؟ قِيلَ لَهُ: لِأَنَّ معنى تبتل بتل نفسه، فجئ بِهِ عَلَى مَعْنَاهُ مُرَاعَاةً لِحَقِّ الْفَوَاصِلِ. الثَّالِثَةُ- قَدْ مَضَى فِي (الْمَائِدَةِ) «٣» فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: ٨٧] كَرَاهَةً لِمَنْ تَبَتَّلَ وَانْقَطَعَ وَسَلَكَ سَبِيلَ الرَّهْبَانِيَّةِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَأَمَّا الْيَوْمُ وَقَدْ مَرِجَتْ عُهُودُ النَّاسِ، وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ، وَاسْتَوْلَى الْحَرَامُ عَلَى الْحُطَامِ «٤»، فَالْعُزْلَةُ خَيْرٌ مِنَ الخلطة، والعز به أَفْضَلُ مِنَ التَّأَهُّلِ، وَلَكِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: انْقَطِعْ عَنِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ وَعَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ: أَخْلِصْ لَهُ الْعِبَادَةَ، وَلَمْ يُرِدِ التَّبَتُّلَ، فَصَارَ التَّبَتُّلُ مَأْمُورًا بِهِ فِي الْقُرْآنِ، مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي السُّنَّةِ، وَمُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ غَيْرُ مُتَعَلِّقِ النَّهْيِ، فَلَا يَتَنَاقَضَانِ، وَإِنَّمَا بُعِثَ لِيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، فَالتَّبَتُّلُ الْمَأْمُورُ بِهِ: الِانْقِطَاعُ إِلَى اللَّهِ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ، كما قال تعالى:


(١). راجع ج ١٣ ص ٦٥.
(٢). البيت من معلقة امرى القيس ومعناه: إذا ابتسمت بالليل رأيت لثناياها بريقا وضوءا وإذا برزت في الظلام استنار وجهها حتى يغلب ظلمة الليل. وممسى راهب: أي إمساؤه.
(٣). راجع ج ٦ ص ٢٦١.
(٤). حطام الدنيا: كل ما فيها من مال يفنى ولا يبقى.