للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بِحَرِيرِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ الَّذِي فِي الْآخِرَةِ [وَفِيهِ] مَا شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْفَضْلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «١»: أَنَّ مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا أُلْبِسَهُ مَنْ أُلْبِسَهُ فِي الْجَنَّةِ عِوَضًا عَنْ حَبْسِهِمْ أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَنِ الْمَلَابِسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ فِيهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (مُتَّكِئِينَ فِيها) أَيْ فِي الْجَنَّةِ، وَنَصْبُ مُتَّكِئِينَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي جَزاهُمْ وَالْعَامِلُ فِيهَا جَزَى وَلَا يَعْمَلُ فِيهَا صَبَرُوا، لِأَنَّ الصَّبْرَ إِنَّمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا وَالِاتِّكَاءُ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ. وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ مُتَّكِئِينَ تَابِعًا، كَأَنَّهُ قَالَ جَزَاهُمْ جَنَّةً مُتَّكِئِينَ فِيها. (عَلَى الْأَرائِكِ) السُّرُرِ فِي الْحِجَالِ وَقَدْ تَقَدَّمَ «٢». وَجَاءَتْ عَنِ الْعَرَبِ أَسْمَاءٌ تَحْتَوِي عَلَى صِفَاتٍ: أَحَدُهَا الْأَرِيكَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي حَجَلَةٍ عَلَى سَرِيرٍ، وَمِنْهَا السَّجْلُ، وَهُوَ الدَّلْوُ الْمُمْتَلِئُ مَاءً، فَإِذَا صَفِرَتْ لَمْ تُسَمَّ سَجْلًا، وَكَذَلِكَ الذَّنُوبُ لَا تُسَمَّى ذَنُوبًا حَتَّى تُمْلَأَ، وَالْكَأْسُ لَا تُسَمَّى كَأْسًا حَتَّى تُتْرَعَ مِنَ الْخَمْرِ. وَكَذَلِكَ الطَّبَقُ الَّذِي تُهْدَى عَلَيْهِ الْهَدِيَّةُ مِهْدًى، فَإِذَا كَانَ فَارِغًا قِيلَ طَبَقٌ أَوْ خِوَانٌ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

خُدُودٌ جَفَتْ فِي السَّيْرِ حَتَّى كَأَنَّمَا ... يُبَاشِرْنَ بِالْمَعْزَاءِ مَسَّ الْأَرَائِكِ «٣»

أَيِ الْفُرُشَ عَلَى السُّرُرِ. (لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً) أَيْ لَا يَرَوْنَ فِي الْجَنَّةِ شِدَّةَ حَرٍّ كَحَرِّ الشَّمْسِ وَلا زَمْهَرِيراً أَيْ وَلَا بَرْدًا مُفْرِطًا، قَالَ الْأَعْشَى:

مُنَعَّمَةٌ طَفْلَةٌ كَالْمَهَا ... ةِ لَمْ تَرَ شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرَا «٤»

وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا عَزَّ وَجَلَّ قَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَجَعَلَ لَهَا نَفَسَيْنِ نَفَسًا فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسًا فِي الصَّيْفِ، فَشِدَّةُ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْبَرْدِ مِنْ زَمْهَرِيرِهَا، وَشِدَّةُ ما تجدون من الحر في الصيف


(١). راجع ج ١٢ ص ١٩.
(٢). راجع ج ١٠ ص ٣٩٨.
(٣). المعزاء: الأرض الصلبة. يقول: من شدة الحاجة إلى النوم يرون الأرض الصلبة ذات الحجارة مثل الفرش على الأرائك وهي السرر. يروى: (خدودا) على أنه مفعول لفعل في البيت قبله.
(٤). الذي في ديوان الأعشى طبع أوربا. مبتلة الخلق مثل المهاة ... إلخ.