قُلْتُ: قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى السَّفَرِ الْمَنْدُوبِ كَزِيَارَةِ الْإِخْوَانِ مِنَ الْفُضَلَاءِ وَالصَّالِحِينَ، أَوِ الْمُبَاحِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ الزَّائِدِ عَلَى الْكِفَايَةِ. وَأَمَّا السَّفَرُ الْوَاجِبُ فِي طَلَبِ الْقُوتِ الضَّرُورِيِّ، أَوْ فَتْحِ بَلَدٍ إِذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ، أَوْ دَفْعِ عَدُوٍّ، فَالْمَرْءُ فِيهِ مُخَيَّرٌ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ، بَلِ الْفِطْرُ فِيهِ أَفْضَلُ لِلتَّقَوِّي، وَإِنْ كَانَ شَهِدَ الشَّهْرَ فِي بَلَدِهِ وَصَامَ بَعْضَهُ فِيهِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَلَا يَكُونُ فِي هَذَا خِلَافٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: مَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ بِشُرُوطِ التَّكْلِيفِ غَيْرَ مَجْنُونٍ وَلَا مُغْمًى عَلَيْهِ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ وَهُوَ مَجْنُونٌ وَتَمَادَى بِهِ طُولَ الشَّهْرِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدِ الشَّهْرَ بِصِفَةٍ يَجِبُ بِهَا الصِّيَامُ. وَمَنْ جُنَّ أَوَّلَ الشَّهْرِ وَآخِرَهُ فَإِنَّهُ يَقْضِي أَيَّامَ جُنُونِهِ. وَنَصْبُ الشَّهْرِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ هُوَ عَلَى الْمَفْعُولِ الصَّرِيحِ بِ" شَهِدَ". الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ فَرْضَ الصَّوْمِ مُسْتَحَقٌّ بِالْإِسْلَامِ وَالْبُلُوغِ وَالْعِلْمِ بِالشَّهْرِ، فَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ قَبْلَ الْفَجْرِ لَزِمَهُمَا الصَّوْمُ صَبِيحَةَ الْيَوْمِ، وَإِنْ كَانَ بعد الْفَجْرُ اسْتُحِبَّ لَهُمَا الْإِمْسَاكُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا قَضَاءُ الْمَاضِي مِنَ الشَّهْرِ وَلَا الْيَوْمَ الَّذِي بَلَغَ فِيهِ أَوْ أَسْلَمَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْكَافِرِ يُسْلِمُ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ كُلِّهِ أَوْ لَا؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ؟ فَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ: لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى، لِأَنَّهُ إِنَّمَا شَهِدَ الشَّهْرَ مِنْ حِينِ إِسْلَامِهِ. قَالَ مَالِكٌ: وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَقْضِيَ الْيَوْمَ الَّذِي أَسْلَمَ فِيهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ: يَصُومُ مَا بَقِيَ وَيَقْضِي مَا مَضَى. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ: يَكُفُّ عَنِ الْأَكْلِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيَقْضِيهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ مِثْلَهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ مَا مَضَى مِنَ الشَّهْرِ وَلَا ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ- وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ- أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكَ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِ. وَرَوَاهُ في المدونة ابن نافع عن مالك، وقاله الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ. وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ قَالَ: لَا يَلْزَمُهُ الْإِمْسَاكُ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ أَشْهَبَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ، وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute