وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَا قَوَدَ إِلَّا بِحَدِيدَةٍ)، وَبِالنَّهْيِ عَنِ الْمُثْلَةِ، وَقَوْلِهِ: (لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ). وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، لِمَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ جَارِيَةً وُجِدَ رَأْسُهَا قَدْ رُضَّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَسَأَلُوهَا: مَنْ صَنَعَ هَذَا بِكِ! أَفُلَانٌ، أَفُلَانٌ؟ حَتَّى ذَكَرُوا يَهُودِيًّا فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَأَقَرَّ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تُرَضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ حَجَرَيْنِ. وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ" [النحل: ١٢٦]. وَقَوْلِهِ:" فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ". وَأَمَّا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فَحَدِيثٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ، لَا يُرْوَى مَنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ، لَوْ صَحَّ قُلْنَا بِمُوجَبِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا قَتَلَ بِحَدِيدَةٍ قُتِلَ بِهَا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ: أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ فَرَضَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ. وَأَمَّا النَّهْيُ عَنِ الْمُثْلَةِ فَنَقُولُ أَيْضًا بِمُوجِبِهَا إِذَا لَمْ يُمَثِّلْ، فَإِذَا مَثَّلَ مَثَّلْنَا بِهِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ الْعُرَنِيِّينَ، وَهُوَ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ. وَقَوْلُهُ: (لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ) صَحِيحٌ إِذَا لَمْ يُحْرِقْ، فَإِنْ حَرَقَ حُرِقَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ عُمُومُ الْقُرْآنِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: إن طرحه في النار عمدا طرح فِي النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ، وَذَكَرَهُ الْوَقَارُ «١» فِي مُخْتَصَرِهِ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الرَّجُلِ يَخْنُقُ الرَّجُلَ: عَلَيْهِ الْقَوَدُ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَقَالَ: لَوْ خَنَقَهُ حَتَّى مَاتَ أَوْ طرحه في بئر فمات، أو ألفاه مِنْ جَبَلٍ أَوْ سَطْحٍ فَمَاتَ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ وَكَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ، فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ- قَدْ خَنَقَ غَيْرَ وَاحِدٍ- فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَمَّا أَقَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْيَهُودِيِّ الَّذِي رَضَّ رَأْسَ الْجَارِيَةِ بِالْحَجَرِ كَانَ هَذَا فِي مَعْنَاهُ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ. قُلْتُ: وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ غَيْرُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ: وَقَدْ شَذَّ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ فِيمَنْ قَتَلَ بِخَنْقٍ أَوْ بِسُمٍّ أَوْ تَرْدِيَةٍ مِنْ جَبَلٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ بِخَشَبَةٍ: إِنَّهُ لَا يُقْتَلُ ولا يقتص منه، إلا إذا
(١). الوقار (كسحاب): لقب ذكريا بن يحيى بن إبراهيم الفقيه المصري، أخذ عن ابن القاسم وابن وهب.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute