وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُ الْعَبْدَ الدَّمُ. وَهُوَ كَالْحُرِّ عِنْدَهُمْ فِي تَجَاوُزِ الْمِيقَاتِ، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ فَإِنَّهُمَا لَا يَلْزَمُهُمَا الْإِحْرَامُ لِدُخُولِ مَكَّةَ لِسُقُوطِ الْفَرْضِ عَنْهُمَا. فَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَبَلَغَ الصبي كان حكمهما حكم المكي، ولا شي عَلَيْهِمَا فِي تَرْكِ الْمِيقَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ" فيه اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذِهِ آيَةٌ مُشْكِلَةٌ، عُضْلَةٌ مِنَ الْعُضَلِ. قُلْتُ: لَا إِشْكَالَ فِيهَا، وَنَحْنُ نُبَيِّنُهَا غَايَةَ الْبَيَانِ فَنَقُولُ: الْإِحْصَارُ هُوَ الْمَنْعُ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي تقصده بالعوائق جملة، ف" جملة" أَيْ بِأَيِ عُذْرٍ كَانَ، كَانَ حَصْرُ عَدُوٍّ أَوْ جَوْرُ سُلْطَانٍ أَوْ مَرَضٌ أَوْ مَا كَانَ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِ الْمَانِعِ هُنَا على قولين: الأول: قال علقمة وعروة ابن الزُّبَيْرِ وَغَيْرُهُمَا: هُوَ الْمَرَضُ لَا الْعَدُوُّ. وَقِيلَ: العدو خاصة، قاله ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَنْسٌ وَالشَّافِعِيُّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ اخْتِيَارُ عُلَمَائِنَا. وَرَأَى أَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَمُحَصِّلِيهَا عَلَى أَنَّ" أُحْصِرَ" عُرِّضَ لِلْمَرَضِ، وَ" حُصِرَ" نَزَلَ بِهِ الْعَدُوُّ. قُلْتُ: مَا حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْ أَنَّهُ اخْتِيَارُ عُلَمَائِنَا فَلَمْ يَقُلْ بِهِ إِلَّا أَشْهَبُ وَحْدَهُ، وَخَالَفَهُ سَائِرُ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي هَذَا وَقَالُوا: الْإِحْصَارُ إِنَّمَا هُوَ الْمَرَضُ، وَأَمَّا الْعَدُوُّ فَإِنَّمَا يُقَالُ فِيهِ: حَصِرَ حَصْرًا فَهُوَ مَحْصُورٌ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى. وَحَكَى أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ أَنَّهُ كَذَلِكَ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ، عَلَى مَا يَأْتِي. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ:" أُحْصِرَ" بِالْمَرَضِ، وَ" حُصِرَ" بِالْعَدُوِّ. وَفِي الْمُجْمَلِ لِابْنِ فَارِسٍ عَلَى الْعَكْسِ، فَحُصِرَ بِالْمَرَضِ، وَأُحْصِرَ بِالْعَدُوِّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُقَالُ أُحْصِرَ فِيهِمَا جَمِيعًا مِنَ الرُّبَاعِيِّ، حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ. قُلْتُ: وَهُوَ يُشْبِهُ قَوْلَ مَالِكٍ حَيْثُ تَرْجَمَ فِي مُوَطَّئِهِ" أُحْصِرَ" فِيهِمَا، فَتَأَمَّلْهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي الْمَرَضِ وَالْعَدُوِّ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ أَبُو نَصْرٍ: وَادَّعَتِ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْإِحْصَارَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَدُوِّ، فَأَمَّا الْمَرَضُ فَيُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْحَصْرُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ فِيهِمَا. قُلْتُ: مَا ادَّعَتْهُ الشَّافِعِيَّةُ قَدْ نَصَّ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ وَغَيْرُهُ عَلَى خِلَافِهِ. قَالَ الْخَلِيلُ: حَصَرْتُ الرَّجُلَ حَصْرًا مَنَعْتُهُ وَحَبَسْتُهُ، وَأُحْصِرَ الْحَاجُّ عَنْ بُلُوغِ الْمَنَاسِكِ مِنْ مَرَضٍ أو نحوه،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute