حنيفة؛ لأن الرطب والتمر عنده جنس واحد جاز أحدهما بالآخر كيلاً بكيل ابتداء، فيكون هذا استيفاءاً للمسلم فيه لا استبدالاً، وعندهما: إن كان المسلم فيه قفيز رطب، فأعطاه مكانه تمراً لا يجوز على كل حال؛ لأنهما يعتبران المماثلة بعد الجفاف ولهذا لا يجوز بيع الرطب بالتمر عندهما كيلاً بكيل ابتداءً ولا مساواة بينهما في تلك الحالة، فإن الرطب تنقص إذا جف فيصير رب السلم بقبض كرٍ من تمر مستوفياً أكثر من حقه باعتبار النظر إلى تلك الحالة وهو ربا فلم يجز، وصار كما لو أسلم في ثلاثة أذرع قفيز تمر، فاستوفى قفيزاً من تمر، فأعطاه قفيزاً من رطب فهو على وجهين:
إما أن يقبضه على وجه الاستيفاء بأن يقول المسلم إليه لرب السلم: خذه لحقك أو قضاء لحقك أو قضاء من حقك أو ما أشبه ذلك من العبارات، أو يقبضه على وجه الصلح والإبراء بأن يقول: خذه صلحاً بحقك أو قضاء من حقك على أني بريء مما كان لك قبلي.
ففي الوجه الأول: هو باطل؛ لأن تقدير ما قال المسلم إليه خذ كمال حقك وما أعطاه لا يفي بكمال حقه؛ لأن العبرة عندهما لحال الجفاف، والرطب ينقص إذا جف فلا يصير مستوفياً جميع حقه باعتبار تلك الحالة، وليس في لفظه ما يدل على إسقاط شيء فلا يدرى كم أخذ من حقه وكم بقي مع أنه إذا انتقص مقدار الربع مثلاً، فإن جعلناه مستوفياً جميع حقه كان استيفاء لقفيز بثلاثة أرباع قفيز وذلك ربا، وإن جعلناه مستوفياً بثلاثة أرباع قفيز، فالمسلم إليه لم يرض بإعطاء قفيز من الرطب إلا وأن يكون قضاءً عن جميع حقه، وفي هذا تفويت حقه في صفة الرطوبة وهي صفة مقصورة.
وفي الوجه الثاني: وهو ما إذا كان على طريق الصلح والإبراء ينظر إلى هذا الرطب كم تنقص إذا جف، فإن علم ذلك بنى على ما يعلم، وإن لم يعلم بنى ذلك على أكثر ما لا يزيد عليه النقصان، فإن علم أنه إذا جف ينقص مقدار الربع أو علم أنه لا يزيد النقصان على الربع ويبقى بثلاثة أرباع ينظر بعد هذا إن كانت قيمة القفيز من الرطب مثل قيمة ثلاثة أرباع قفيز من تمر أو أقل، فالصلح جائز؛ لأن رب السلم استوفى بعض حقه وأبرأه عما بقي؛ لأن في لفظ الصلح ما يدل على الإبراء والإسقاط، كيف وقد صرح بالإبراء في بعض المواضع ولم يشترط عليه بإزاء ما أبرأه عوضاً، وهو الحسن الجميل الذي ورد به الأثر فيجوز، وإن كانت قيمة قفيز من الرطب أكثر من قيمة ثلاثة أرباع تمر السلم بطل الصلح؛ لأنه وإن استوفى قدر ثلثة أرباع وأبرأه عن الربع فقد جعل لنفسه بمقابلة ما أبرأه عنه فضل جودة الرطوبة فلا يجوز، كمن له على آخر ألف درهم نبهرجة إلى سنة فصالحه على خمسمائة نبهرجة معجلة، أو كان له على رجل ألف درهم نبهرجة حالة، فصالحه على خمسمائة جيدة حالاً لا يجوز لما قلنا: إنه اعتاض صفة الجودة عما أبرأ فكذا ههنا.
واستشهد محمد رحمه الله لإيضاح هذا بما لو كان لرجل على رجل قفيز تمر مؤجل فصالحه على نصف قفير تمر حال كان الصلح باطلاً؛ لأنه حط القدر بمقابلة فضل الجودة في المسألة الأولى، وبمقابلة فضل الحلول في المسألة الثانية كذا هنا.