واحد منهما البينة على ما ادعاه من الكراء وركب البغال وقف القاضي الدابة في أيديهما؛ لأنهما أمنا أن صاحب الدابة رضي بأمانتهما ولا يأذن القاضي لواحد منهما في الركوب إلى الموضع الذي يدعي لما فيه من إزالة يد أحدهما وقد استويا فيه ولما فيه من الحكم على الغائب بالبينة ولكن يأمرهما أن ينفقا عليه على ما يرى أن رجاء قدوم صاحبها وإن لم يرج لا يأمرهما بالنفقة بل يأمرهما بالبيع؛ لأنه ثبت كونها أمانة للغائب في أيديهما، والقاضي نصب ناظراً للمسلمين فيأمرهما بما هو نظر للغائب، ففي الوجه الأول: الانفاق أنظر للغائب، وفي الوجه الثاني: البيع أنظر؛ لأنه إذا كان لا يرجو قدوم صاحبها لو أمرهما بالإنفاق ربما تأتي النفقة على قيمة الدابة فيأمرهما بالبيع احتياطاً، وإذا باعا الدابة بأمر القاضي وقف القاضي الثمن في أيديهما؛ لأنه كان يقف الدابة في أيديهما فيقف بدلها أيضاً في أيديهما، فإن كانا قد أنفقا عليها بأمر القاضي ويثبت ذلك عند القاضي، فالقاضي يعطيهما من الثمن مقدار ذلك؛ لأنه ثبت عند القاضي وجوب هذا القدر ديناً على الغائب؛ لأن أمر القاضي بالإنفاق وله ولاية كأمر الغائب بنفسه وثمن الدابة مال الغائب وأنه من جنس حقهما وكان للقاضي أن يعطيهما من ذلك مقدار دين الغائب.
وإن أقاما جميعاً البينة على أنهما أوفيا الكراء وطلبا من القاضي أن يقضي من الثمن بقية حقهما من الكراء لم يقبل القاضي ذلك؛ لأن هذا دين لم يثبت عند القاضي بما أقاما من البينة لأنهما أقاما البينة؛ على إثبات دين على الغائب وليس عنه خصم حاضر لا قصدي ولا حكمي، فصار وجودها وعدمها بمنزلة.
فإن أقاما البينة على موت صاحب الدابة قبل القاضي ذلك ولقي في بقية حقهما فيما عجلا من الأجرة ويأخذ منهما ما بقي من الثمن ويضعه في يدي ثقة حتى يحضر ورثة الميت.
فرق بين هذا وبينما إذا أقاما البينة على إيفاء الكراء حال حياة الآجر حيث لا يقبل القاضي ذلك، والفرق بينهما أن بعد موت الغائب بينتهما قامت على خصم حاضر وهو القاضي فإن للقاضي بعد موت الغائب ولاية نصب الوصي للميت إذا لم يكن للميت وصي ولا وارث حاضر وما لم ينصب الوصي فالقاضي بمنزلة الوصي للميت، فقامت البينة على خصم حاضر فثبت ما أعطى من فضل الكراء فأما قبل وفاته فليس للقاضي ولاية نصب خصم عن الغائب؛ لأنه يمكن للمدعي الخصومة مع الحي في الجملة فكانت البينة في حق إعطاء فصل الكراء فإنه على غير خصم فلا تقبل وإنما يأخذ القاضي ما بقي من الثمن منهما ويضعه في يدي العدل؛ لأنه يثبت بهذه البينة أن المال صار للوارث ولم يثبت الرضا من الوارث بأمانتهما بخلاف حالة الحياة؛ لأن هناك ثبت كون المال للغائب وقد ثبت أنه رضي بأمانتهما فلا يخرج القاضي العين ولا الثمن بعد البيع عن أيديهما وإن أحب القاضي في جميع هذه المسائل أن لا يتعرض بأمرهما ببيع ولا نفقة ويبيعه ذلك؛ لأن فيه قضاء على الغائب من وجه وفيه حفظ المال على الغائب من وجه أيضاً، فيميل إلى أيهما شاء.