للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مالا يوفق غيرهم، ولأنهم عرفوا طريق رسول الله في بيان الأحكام، وشاهدوا الأحوال التي نزلت فيها النصوص، والمحال التي تعتبر باعتبارها الأحكام، فيكون رأيهم أقوى، واجتهادهم أصوب.

وإن اجتمعت الصحابة على حكم، وخالفهم واحد من التابعين، إن كان المخالف ممن لم يدرك عهد الصحابة، لا يفيد خلافه، حتى لو قضى القاضي بقوله، بخلاف إجماع الصحابة كان باطلاً، وإن كان ممن أدرك عهد الصحابة، وزاحمهم في الفتوى، وسوغوا له الاجتهاد، كشريح والنخعي والشعبي رضي الله عنهم، لا ينعقد الإجماع مع مخالفته.

ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يثبت إجماع الصحابة في الأسعار؛ لأن إبراهيم النخعي كان يكرهه وهو ممن أدرك عهد الصحابة، فلا يثبت الإجماع بدون قوله، وهذا لأنه لما أدرك عهد الصحابة وسوغوا له الاجتهاد، حتى زاحمهم في الفتوى، فقد جعلوه كواحد منهم فصار خلافه كخلاف واحد منهم.

فإن كانت حادثة ليس فيها إجماع الصحابة، ولا قول واحد من الصحابة، ولكن فيه إجماع التابعين، فإنه يقضى بإجماعهم؛ لأن إجماع التابعين حجة قال الله تعالي: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى} (النساء: ١٥) الآية، وخلاف إجماعهم اتباع غير سبيل المؤمنين، إلا أن إجماع التابعين في كونه حجة دون إجماع الصحابة، لأن بعض الناس قالوا: إجماعهم ليس بحجة، إنما ذلك للصحابة، وكذلك إجماع كل فريق بعد ذلك حجة، ولكنه دون الأول في كونه حجة. [

وإن كانت حادثة فيها اختلاف التابعين، يجتهد القاضي في ذلك، إذا كان من أهل الاجتهاد، ويقضي بما هو أقرب للصواب، وأشبه بالحق، وليس له أن يخالفهم باختراع قول ثالث عندنا، على نحو ما ذكرنا في الصحابة، وإن جاء عن بعض التابعين ولم ينقل عن غيرهم فيه شيء، فعن أبي حنيفة رحمه الله فيه روايتان: في رواية قال: لا أقلدهم، رجال اجتهدوا، ونحن رجال نجتهد، وهو ظاهر المذهب، وفي رواية «النوادر» قال: من كان منهم أفتى في زمن الصحابة، وسوغوا له الاجتهاد، مثل شريح، ومسروق بن الأجدع، والحسن، فأنا أقلدهم، وهذا لأن من أفتى في زمن الصحابة وسوغوا له الاجتهاد، فقد جعلوه كواحد منهم، فإن لم يجد عنهم بإجماع، يعمل بإجماع من بعدهم، إن كان في الزمان الذي هو فيه، وهذا لأن إجماع كل عصر حجة بالنص الذي تلونا وبقوله عليه السلام: «لا تجتمع أمتي على الضلالة» .

فإن لم يجد في ذلك إجماعاً، وكان فيه اتفاق بين أصحابنا أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله، يأخذ بقولهم ولا يسعه أن يخالفهم برأيه؛ لأن الحق لا يعدوهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>