وفي «أقضية الجامع» من تعليقي أن القضاء بشاهد ويمين يتوقف على إمضاء قاض آخر، ولو قضى كل متروك التسمية عمداً ذكر في «النوادر» أن على قول أبي حنيفة ومحمد ينفذ قضاؤه، وعلى قول أبي يوسف لا ينفذ؛ لأنه خلاف التنزيل، ولو قضى في حد أو قصاص بشهادة رجل وامرأتين، ثم رفع إلى قاض آخر يرى خلاف رأيه، فإنه ينفذ قضاؤه، ولا يبطله، وليس طريق نفاذ القضاء الأول في هذه الصورة حصول في محل مجتهد فيه؛ لأنه لم يبلغنا الاختلاف فيه إلا ما روي شاذاً عن شريح رضي الله عنه، وإنما طريقه أن القضاء الأول حصل في موضع اشتباه الدليل.
بيانه أن المرأة من أهل الشهادة شهادة مطلقة، لأن الأهلية بمعان قائمة بها وتلك المعاني لا تختلف وظاهر قوله تعالى:{فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان}(البقرة: ٢٨٢) يدل على قبول شهادة النساء مع الرجال مطلقاً، نظراً إلى اللفظ وأنه وإن ورد في باب المداينة، إلا أن العبرة عندنا لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، ولو لم يرد نص قاطع في إبطال شهادة النساء مع الرجال في هذه الصورة، وما روي عن الزهري، وهو قوله: مضت السنة الحديث ليس بدليل قطعي، فكان موضع الاجتهاد، فكان قضاؤه في فصل مجتهد فيه.
وفي «السير الكبير» اشترى الرجل دابة وغزا عليها، فوجد بها في دار الحرب عيباً، فإن كان البائع معه في العسكر خاصمه، وإن لم يكن ينبغي له أن لا يركبها، ولكن يسوقها معه حتى يخرجها إلى دار الإسلام، ولو ركبها لحاجة نفسه، أو حمل أمتعة عليها سقط حقه في الرد وجد دابة أخرى أو لم يجد، فإن أتى الإمام وأخبره فأمره بالركوب فركب سقط حقه في الرد، ولو أكرهه على الركوب لما أنه كان يخاف الهلاك، فركب ولم ينقصها ركوبه فله الرد؛ لأن عند الإكراه ينعدم الفصل من المكره، وينعدم الرضا به، وإن لم يكرهه الإمام على الركوب ولكن قال: اركبها وأنت على ردك فركبها سقط حقه في الرد، فإن ارتفعا إلى القاضي بعد ذلك، فردها بالعيب على طريق الاجتهاد، لما قال له الأمير من ذلك، ثم رفعت إلى قاض آخر يري ما صنع الأول خطأ، فإنه يمضي قضاء الأول لأن قضاء الأول حصل في موضع الإجتهاد؛ لأن ظاهر النصوص الموجبة لطاعة الأمير يخرج ركوبه من أن يكون رضاً بالعيب، وكذلك التنصيص من الأمير، بقوله وأنت على ردك يسقط اعتبار دليل الرضا منه بالعيب ولو قضى بإبطال طلاق المكره، نفذ قضاؤه؛ لأن قضاءه في فصل مجتهد، لأنه موضع اشتباه الدليل، لأن اعتبار الطلاق بسائر التصرفات يبقى حكمه.
وإذا قضى قاض بأمر مختلف فيه، ثم رفع إلي قاض آخر فأبطله، ثم رفع إلى قاض ثالث، فهذا القاضي يمضي القضاء الأول إلا الترك ويرد الثاني؛ لأن الأول نفذ بالإجماع لحصوله في فصل مجتهد فيه، فكان قضاء الثاني بالرد في غير محل لاجتهاد فلا ينفذ، ولو كان نفس القضاء الأول مجتهدا فيه بعض المشايخ قالوا هو مختلف فيه، وبعضهم