يسأل عن الشهود، فإن عدلهم المشهود عليه بعدما شهدوا عليه قضى عليه، ولم يلتفت إلى طعنه بعد ذلك، هذا إذا عدلهما المشهود عليه بعد الشهادة، فأما إذا عدلهما قبل أن يشهدوا عليه، ثم شهدا عليه، فأنكر المشهود عليه ما شهدا به، فالقاضي لا ينفذ ذلك عليه، ولا يكتفي بذلك التعديل.
أما على الرواية التي لا تعتبر تعديل المشهود عليه بعد الشهادة فظاهر، وأما على الرواية الأخرى؛ لأنه يمكنه أن يقول: كنت ظننت أنهما عدلان، وأنهما لا يشهدان على زور غير أنهما تغيراً أو فسقا، هكذا ذكر المسألة في «كتاب الأقضية» ، وروى الحسن عن أبي حنيفة ما يدل على أن تعديله قبل الشهادة معتبر، فإنه روى أن المشهود عليه إذا عدل الشهود بعدما شهدوا عليه، ثم طعن فيهم، قال: لا يقبل طعنه، وقضى عليه بشهادتهم، وإن كان قد عدلهم قبل أن يشهدوا عليه، فلما شهدوا عليه طعن فيهم، قال: لم يقض عليه بتعديله إياهم قبل أن يشهدوا قبل الجواب بالطعن، فهذا يبين لك أن بدون الطعن يقضي عليه بذلك التعديل السابق.
ثم التزكية نوعان: تزكية السر، وتزكية العلانية.
فتزكية العلانية: أن يحضر العدل مجلس الحكم ويسأله القاضي عن الشهود بحضرتهم فيزكيهم، ويقول بحضرتهم: هؤلاء عدول.
والتزكية في السر أن يسأل القاضي المعدل عن الشاهد في السر، فيعدله ويجرحه وقد كانت التزكية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضى الله عنهم أن القوم كانوا صلحاء، وكان المعدل لا يخاف من المدعي والشهود؛ لأنهم كانوا منقادين للحق، وبعد ذلك فسد أحوال الناس، وآل الأمر إلى أن المزكي لو جرح الشهود بحضرتهم قاتلوه بالأذى، وظهر عجز المعدل عن تزكية العلانية، فأحدثوا تزكية السر، وهو معنى ما نقل عن محمد رحمه الله في «النوادر» : تزكية السر عناء وبلاء، وقيل: أول من أحدث تزكية السر شريح، وحين أحدثها قيل له: أحدثت ما لم يكن، فقال: أحدثتم فأحدثنا، يعني: أظهرتم إحداث العداوة والخصومة مع المعدل، فأحدثنا تزكية السر.
قال في «أدب القاضي» : لو جمع القاضي بين تزكية السر وبين تزكية العلانية، فذلك أحسن، وتفسير الجمع أن المزكي عدل الشهود في السر، فالقاضي يجمع بين الشهود وبين المزكي في مجلسه، ويقول للمزكي: أهؤلاء الذين زكيتهم؟.
قال في كتاب «الأقضية» وينبغي أن يكون المعدل في العلانية هو المعدل في السر، وإنما كان هذا حسن حتى لا يتسمى الرجل باسم غيره، إذ لا يتفق اثنان على اسم واحد.
قال في «أدب القاضي» : وينبغي للقاضي أن يختار للمساءلة عن الشهود من كان عدلاً؛ لأنه يعدل غيره فلا بد من أن يكون عدلاً في نفسه، وينبغي أن يكون صاحب خبرة بالناس؛ لأنه إذا لم يكن بهذه الصفة لا يعرف العدل من غير العدل، وينبغي أن لا يكون طماعاً حتى لا يخدع بالمال، وينبغي أن يكون فقيهاً يعرف أسباب الجرح وأسباب التعديل؛ لأنه اختلف أقاويل أهل العلم في أسباب التعديل والجرح، فمنهم من ضيق كل