والفرق أن كون الأول قاضياً ظهر في حق الناس كافة لما أن الأول استفاد الولاية ممن له ولاية على الناس كافة، فكما ينفذ قضاء الأول في حق المخاصمين نفذ في حق سائر المسلمين وقضائهم، فلو جاز لقاض آخر نقضه إذا كان مخالفاً لرأيه أدى إلى نقض ما أدي بالاجتهاد، باجتهاد مثله وإنه لا يجوز أما كون الحكم حكماً لم يظهر في حق غير المتخاصمين؛ لأنه استفاد الولاية من جهة المتخاصمين، وولاؤهما مقصورة عليهما، وقد كان للقاضي المولى قبل هذا الحكم رأياً في هذه الحادثة كان يحكم به فلو لم يجز نقض هذا الحكم، إذا كان مخالفاً لرأيه لظهر نفاذ حكم الحاكم في حقه وأظهر كونه حكماً في حقه، وإنه لا يجوز.
وإذا اصطلح الرجلان على حكم يحكم بينهما ولم يعلماه ولكنهما قد اختصما إليه وحكم بينهما جاز؛ لأنهما لما توجها إليه للخصومة فقد أعلماه فصار حكماً بينهما فيجوز الصلح. وإذا اصطلحا على غائب يحكم بينهما فقدم وحكم بينهما جاز وإذا اصطلحا على أن يحكم بينهما فلان أو فلان فأيهما حكم بينهما جاز، لأن التحكيم صلح أو تفويض وأياً ما كان يجوز مع هذا النوع من الجهالة، أما الصلح فلأنه لو صالح على عبدين على أن المدعي بالخيار يأخذ أيهما شاء ويترك الآخر جاز.
وأما الوكالة فإنه لو قال رجل: وكلت هذا أو هذا ببيع عبدي هذا يجوز، وإذا تقدما إلى أحدهما عيناه للخصومة، فلا يبقى الآخر حكماً كما في مسألة الوكالة. إذا باع أحدهما العبد الذي وكل ببيعه، فإنه يخرج الآخر عن الوكالة، وإذا اصطلحا على أن يحكم بينهما أول من يدخل المسجد فذلك باطل؛ لأن الجهالة هاهنا أبين وأظهر.
ألا ترى أنه لو قال أول من يدخل المسجد هذا فقد وكلته ببيع هذا العبد لا يجوز، وهو نظير ما لو قال إذا جاءت بضاعتي فقد وكلت رجلاً من عرض الناس ببيعها، وذلك لا يجوز كذا هاهنا.
ولو سافر الحكم أو مرض فأعمي ثم قدم من سفره أو برئ ثم حكم جاز، والأصل في هذا أن الحكومة متى صحت لا يخرج الحكم عن الحكومة إلا بانتهاء الحكومة بأن كانت مؤقتة أو تفصل الخصومة أو يخرج الحكم من أن يكون أهلاً للحكومة باعتراض الردة أو ما أشبه ذلك أو بالعزل؛ لأن الحكم فيما بين المتخاصمين بمنزلة القاضي المولى لا يخرج عن القضاء إلا بأحد ما ذكرنا من الأسباب كذا هاهنا إذا ثبت هذا فنقول بالسفر والمرض لا يخرج من أن يكون أهلاً للحكومة، فبقي على حكومته.
ولو عمي الحكم ثم ذهب العمى وحكم لم يجز؛ لأن بالعمى خرج من أن يكون أهلاً للحكومة. ألا ترى أن القاضي المولى يخرج عن القضاء بالعمى فكذا الحكم.
ثم فرق بين الحكم والقاضي وبين الشاهد إذا عمي بعد تحمل الشهادة، ثم زال العمى وشهد جاز، والفرق أن كونه غير شاهد لا يمنع ابتداء التحمل، ألا ترى أنه لو تحمل وهو صبي أو عبد ثم بلغ الصبي أو أعتق العبد وأدّى جاز فلأن لا يمنع بقاء التحمل أولى، أما كونه غير شاهد يمنع ابتداء القضاء والتحكيم فيمنع البقاء، لأن ما ليس