بشرائطه عند قاضي مرو بحضرة المطلوب ثم هرب المطلوب قبل أن تظهر عدالة الشهود، وذهب إلى سرخس، ثم ظهرت عدالة الشهود، قال أبو يوسف رحمه الله: ليس للقاضي المكتوب إليه أن يكتب إلى قاضي سرخس.
وقال محمد رحمه الله: له ذلك، وهذه المسألة فرع مسألة ذكرها محمد رحمه الله في «الزيادات» ، وهو أن الرجل إذا ادعى على آخر مالاً، وأقام البينة بمحضر من المطلوب وجحوده، ثم هرب المطلوب ليس للقاضي أن يقضي بتلك البينة عند محمد رحمه الله؛ لأن القضاء لإلزام الحق، وليس للقاضي ولاية على الغائب فلا يصح الإلزام عليه بالقضاء؛ ولأنه لم يظهر عجزه عن الطعن بسبب الغيبة، فلعله ذهب ليأتي بالدفع فلا يجوز القضاء.
وقال أبو يوسف رحمه الله: له أن يقضي عليه بتلك البينة؛ لأن حضرة الخصم لأجل سماع البينة عليه، إنما شرطت للجحود الذي هو شرط سماع البينة وليصير الحال معلوماً للمدعى عليه، حتى لو كان له دفع يأتي به وقد جحد ولم يأت يدفع حتى هرب، فدل على عجزه عن الدفع، فكان للقاضي أن يقضي عليه وقياسه على ما لو أقر المدعى عليه ثم غاب، وهناك القاضي يقضي عليه بإقراره كذا هنا.
ومحمد رحمه الله فرق بين الإقرار وبين البينة، والفرق أن الإقرار يوجب الحق بنفسه من غير اتصال القضاء به، فلم يكن في القضاء حال غيية الخصم إلزام الحكم على الغائب، فأما الشهادة لا توجب الحق بنفسها قبل اتصال القضاء بها، فلو قضى بها حال غيبة الخصم كان فيه إلزام الحكم على الغائب، وإنه لا يجوز ولاية لو جاز القضاء بالبينة مع غيبة الخصم يفسد عليه الطعن مع البينة، فلا يقضى حتى لا يفوت حقه في الدفع والطعن بخلاف الإقرار، فإنه لاحق له في الطعن، فلهذا اختار، والظاهر من قول أبي حنيفة أنه مع محمد رحمهما الله، وإذا كان له أن يقضي مع غيبة المطلوب عند أبي يوسف رحمه الله لا حاجة إلى الكتاب فلا يكتب.
وعند محمد رحمه الله لما لم يكن له أن يقضي، وقد ظهر عنده وثبت كتاب القاضي وما فيه كان له أن يكتب إلى غيره إحياء لحق المدعي، فإن رجع الطالب إلى القاضي الكاتب الأول وقال: اكتب لي إلى قاضي بلدة أخرى؛ لأني لم أجد خصمي في تلك البلدة، فإنه لا يكتب له في ذلك حتى يرد عليه ذلك الكتاب؛ لأنه مبهم فيما يقول إذ يجوز أنه وجد خصمه واستوفى حقه، فلما ارتحل خصمه إلى بلدة أخرى أراد أن يحتال بهذه الحيلة ليأخذ منه ثانياً، فيحتاط القاضي ولا يكتب حتى يرد عليه ذلك الكتاب، فإذا رد الآن يكتب، فالإنسان قد يصير مبتلى بهذا بأن يرتحل خصمه من بلدة المكتوب إليه إلى بلدة أخرى، وما ذكرنا من الاحتمال قد زال برد الكتاب؛ لأن القاضي المكتوب إليه لو أخذ المدعى عليه بحق المدعي لا يترك المدعي حتى يذهب بالكتاب، فيكتب ثانياً إحياء لحق المدعي.
ولو أن القاضي الكاتب أراد أن يكتب له ثانياً قبل رد ذلك الكتاب عليه مع أنه ليس