ونظير هذا ما روي عن محمد في مصر فيه قاضيان في كل جانب منه قاض على حدة، فيكتب أحدهما إلى الآخر كتاباً قبل المكتوب إليه. ولو أتى أحدهما إلى صاحبه وأخبره بالحادثة بنفسه لم يقبل قوله؛ لأن في الوجه الأول الكاتب خاطبه من موضع القضاء وفي هذا الوجه الأول خاطبه من غير موضع القضاء.
وكذلك لو أن قاضيين التقيا في عمل أحدهما أو في مصر ليس من عملهما، فقال أحدهما للآخر: قد ثبت عندي لفلان بن فلان بن فلان الفلاني كذا كذا، فاعمل بذلك بما يحق لله تعالى عليك، لم يقبل ذلك منه ولم ينفذه؛ لأن في الوجه الأول: الخطاب أو السماع وجد في موضع لا ينفذ قضاؤه فيه، فصار كخطاب غير القاضي أو كسماعه وهو غير قاض، فلا يجوز أن يعتمد في القضاء به. وفي الوجه الثاني: الخطاب والسماع وجدا في موضع لا ينفذ قضاؤه فيه، فكان كخطاب غير القاضي لغير القاضي بخلاف كتاب القاضي إلى القاضي؛ لأن خطاب الكاتب وجد في موضع ينفذ قضاؤه فيه، وسماع المكتوب إليه وجد أيضاً في موضع ينفذ قضاؤه فيه.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: رجل له على رجل غائب مال مؤجل، سأل من القاضي أن يكتب له بذلك كتاباً، فإنه يجيبه إلى ذلك ويكتب له، ويذكر فيه الأجل على ما شهد به الشهود؛ وهذا لأن الطالب يحتاج إلى إثبات المال المؤجل كما يحتاج إلى إثبات المال الحال؛ لأن الدين كما يكون حالاً يكون مؤجلاً، ولو انتظر محل الأجل عسى يغيب شهوده فيتعذر إليه الوصول إلى حقه، فقلنا بأنه يكتب إحياء لحقه، ولكن ينبغي أن يذكر الأجل في الكتاب كما شهد به الشهود حتى لا يطالبه قبل محل الأجل، فمطلق الدين يتصرف إلى الحال التي يثبت فيه التأجيل.
قال: وإذا ادعى المطلوب أن الطالب قد أبرأني عن كل قليل وكثير، وقال: قضيت الدين الذي له علي وأقام على ذلك بينة، وقال للقاضي: إني أريد أن أقدم البلدة التي فيها الطالب وأخاف أن يأخذني بالمال ويجحد الإبراء والاستيفاء وشهودي هاهنا فاسمع من شهودي واكتب لي إلى ذلك القاضي، فإنه لا يسمع من شهوده ولا يكتب له في ذلك على قول أبي يوسف، وقال محمد رحمه الله: يكتب، وأجمعوا على أنه لو قال: جحدني الاستيفاء مرة وخاصمني مرة، فأنا أخاف أن يخاصمني مرة أخرى، فاسمع من شهودي واكتب لي إلى قاضي ذلك البلد إنه يكتب، فوجه قول محمد: أن جواز كتاب القاضي إلى القاضي باعتبار الحاجة، والحاجة هنا ثابتة، فإنه لو حضر تلك البلدة ربما يأخذه الطالب بالمال، وليس له ثمة شهود على الإبراء، فيحتاج إلى العود إلى بلد الشهود وإقامة الشهود عند القاضي، وأخذ الكتاب منه وفيه من الحرج ما لا يخفى على أحد.
وأبو يوسف رحمه الله يقول: قبول البينة يعتمد جحوداً حقيقة أو جحوداً مخبراً به ولم يوجد كلاهما بخلاف ما إذا قال: جحدني الاستيفاء مرة أخرى؛ لأن الجحود صار مخبراً به إن لم يوجد حقيقة.