فالحاصل: أن حقيقة الجحود من الحاضر يشترط لسماع البينة عليه ليقضي عليه، ومن الغائب يشترط خبر الجحود ليسمع البينة عليه ويكتب؛ ولأن القاضي نصب لفصل الخصومات لا لتهييجها، وفي هذا تهييج الخصومة؛ لأن الخصومة ما توجهت بعد، فلهذا لا يجيبه إليه، ألا ترى أن الطالب لو كان حاضراً وقدمه المطلوب إلى القاضي وادعى عليه الإبراء أو الاستيفاء وطلب من القاضي أن يسأله عن ذلك حتى لو أنكر أقام عليه البينة، فإنه لا يجيبه إلى ذلك، فلما لم يسمع منه ذلك حال حضرته، فحال غيبته أولى.
بخلاف ما لو قال: خاصمني مرة؛ لأن هناك الخصومة قد هاجت، فكانت الكتابة لفصلها وقوانين مسألة الاستشهاد، وبينما إذا أحضرت المرأة زوجها إلى القاضي، وقالت: إنه طلقني ثلاثاً وانقضت عدتي وتزوجت بزوج وإني أخاف أن ينكر الطلاق بعد ذلك، فاسأله حتى إذا أنكر أقمت عليه البينة فإن القاضي يسأله، والفرق ظاهر وهو أن القياس فيهما واحد وهو ما ذكرنا، إلا أنا تركناه ثمة احتياطاً؛ لأن الباب باب الفرج، والاحتياط في باب الفرج واجب.
ومن جنس مسألة دعوى الإبراء على الغائب مسألتان أخراوان:
إحداهما: مسألة الشفعة. وصورتها: رجل قال للقاضي: إني اشتريت داراً وفلان الغائب شفيعها وقد سلم الشفعة، وأجازني إذا ذهبت ثم يأخذني بالشفعة وينكر التسليم ويطلب منه أن يسمع البينة على التسليم ويكتب بذلك فهو على الخلاف الذي قلنا.
الثانية: مسألة الطلاق. وصورتها: امرأة قالت للقاضي: طلقني زوجي ثلاثاً وهو في بلد كذا اليوم، وأنا أريد أن أذهب إلى تلك البلدة وأخاف أن زوجي ينكر طلاقي فاسمع من شهودي، واكتب إلى قاضي تلك البلدة، فالقاضي هل يجيبها؟ فهو على الخلاف الذي ذكرنا.
فإن كان هذا الذي حضر القاضي أخبره عن الجحود والخصومة مرة سمع بينته وكتب له بذلك بلا خلاف. ولو كان الطالب أبرأ المطلوب عند القاضي أو كان الشفيع سلم الشفعة عند القاضي أو كان الزوج طلق المرأة عند القاضي، فالقاضي يكتب ما سمع منهم وهذا على أصل محمد رحمه الله ظاهر؛ لأن العلم الحاصل بالمعاينة فوق العلم الحاصل بالبينة، فلما كان القاضي يكتب ثمة فهاهنا أولى. قالوا: وعلى قياس قول أبي يوسف رحمه الله ينبغي أن لا يكتب لما مر.
وإذا أراد القاضي أن يكتب بعلمه فاعلم بأن كتاب القاضي بعلمه بمنزلة قضائه بعلمه؛ لأن كتاب القاضي له حكم القضاء من وجه، ففي كل موضع جاز له أن يقضي بعلمه جاز له أن يكتب بعلمه، وقد ذكرنا فصل القضاء بالعلم قبل هذا ما فيه اتفاق وما فيه خلاف، فهذا بناء على ذلك.
إلا أن في فصل الكتابة اختلف المشايخ على قول أبي حنيفة في صورة، وهو ما إذا علم بالحادثة قبل أن يستقضي ثم استقضى بعضهم، قالوا: لا يكتب بذلك العلم، كما لا