قال بعض مشايخنا رحمهم الله: ولا يترك المحبوس حتى يأتي بوطاء فتلقى تحته في السجن حتى يكون ذلك أشق عليه، وأبلغ في الضجر، فيحصل المقصود.
وهل يترك ليكتسب في السجن؟ اختلف فيه المشايخ، قال بعضهم: لا يمنع من الاكتساب في السجن؛ لأن فيه نظراً من الجانبين من جانب المديون، لأنه ينفق على نفسه وعياله، ولرب الدين فإنه إذا فضل منه يصرف ذلك إليه، وقال بعضهم: يمنع عن ذلك، وهو الأصح وإليه أشار الخصاف رحمه الله؛ لأن المقصود من الحبس أن يضجر فيتسارع إلى قضاء الدين. ولو ترك يكتسب في السجن لا يلحقه الضجر؛ لأن الحبس يصير بمنزلة الحانوت، فلا يضجر بالمقام فيه، فلا يحصل المقصود.
ولا يمنع المسجون من دخول أغلمه وجيرانه عليه؛ لأنه يحتاج إلى دخولهم عليه ليشاورهم في قضاء الدين، ولا يتضرر الطالب بذلك فلا يمنع عنه، ولكن لا يمكنون من أن يمكثوا فيه طويلاً ولا أن يسكنوا معه؛ لأنه يستأنس بهم ويزيل الوحشة عن نفسه، فلا يلحقه الضجر في الحبس.
ولا ينبغي للقاضي أن يضرب محبوساً في دين، ولا يقيده ولا يقيمه، به ورد الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه، وروي عن أبي حنيفة رضى الله عنه ما يدل على أن للقاضي أن يقيده، والذي روي عنه: إذا حبس القاضي رجلاً في أمر قد استوجب الحبس، فأقر بمال أوحد أو قصاص لزمه ذلك، وكذلك إن قيد مع ذلك.
ولو قال: لا أخرجك من السجن، أو قال: لا أحل القيد عنك أو تصدق، وقد قيده وحبسه في حق مما أقر به لزمه، وإن كان حبسه في غير حق فهذا القول منه تهديد، فلا يجوز ما أمر به في تلك الحالة. قال هشام: سمعت أبا يوسف رحمه الله يقول: إذا قال المدعي: لا أقر ولا أنكر فإن حبسه من يرى حبسه إذا قال لا أقر ولا أنكر حتى يقر أو ينكر، فأقر في الحبس ألزمته المال، قال: وكان أبو يوسف رحمه الله قال قبل ذلك: لا ألزمه المال، ثم رجع عن قوله لا ألزمه، قال: لأني حبسته ليقر أو لينكر، فإن شاء أنكر، قال: إنما يبطل إقراره إذا حبسه ليقر، هذا لفظ أبي يوسف رحمه الله إشارة إلى أن الحبس إذا كان لأجل الإقرار، كان المحبوس مجبراً على الإقرار؛ لأن له أن ينكر فيصح إقراره، فإن كان هذا المحبوس لا يزال يهرب من السجن، يؤدّبه القاضي بأسواط؛ لأنه ظهر منه هتك حرمة سجن القاضي وتمرده وعناده، فيؤدبه بأسواط حتى يمتنع عن ذلك، ويكون عظة لغيره، هكذا روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله، وذكر الخصاف في «أدب القاضي» : أن القاضي إذا خاف على المحبوس أن يفر من سجنه، حق له إلى سجن اللصوص إذا كان لا يخاف عليه منهم؛ لأن القاضي يحتاج إلى حفظه وسجن اللصوص أحصن، والرقباء ثمة أكثر فيحوله إليه، فإن كان يخاف عليه من جهة اللصوص لما أن بينه وبين اللصوص عداوة وعرف أنه لو حوله إليهم، لقصدوه لا يحوله؛ لأن فيه إهلاكه وما استحق عليه الهلاك.g
قال محمد رحمه الله عن أبي حنيفة رضي الله عنه في رجل حبسه القاضي في دين