الثاني: إذا شهدوا بوراثته وبينوا سببه وقالوا: لا نعلم له وارثاً آخر، وهذه الشهادة مقبولة، ويدفع القاضي المال إليه للحال من غير تلوم، وقوله: لا نعلم له وارثاً سوى هذا ليس من صلب الشهادة، بل هو لإسقاط مؤنة التلوم عن القاضي؛ لأن بدون ذكر هذه الزيادة القاضي يتلوم، وبعد ذكر هذه الزيادة لا يتلوم.
الثالث: إذا شهد أنه وارثه لا وارث له غيره، وهذه الشهادة مردودة قياساً مقبولة استحساناً، وجه القياس: أن هذه شهادة بما يعلم القاضي أنه لا علم للشاهد به لا من حيث الحقيقة، ولا من حيث الحكم بمعاينة الحكم، أما من حيث الحقيقة فظاهر، وأما من حيث الحكم بمعاينة السبب؛ لأنه لا يوجد في النفي سبب موضوع يوجب النفي بخلاف الشهادة على الإثبات؛ لأن من الإثبات ما يعلم حقيقة، كالأفعال نحو الغصب والقتل، ومنها ما يعلم من حيث الظاهر بمعاينة الأسباب كالأملاك، فلم تكن الشهادة على الإثبات شهادة بما يعلم القاضي أنه لا علم للشاهد به وبخلاف قوله: لا نعلم له وارثاً غيره لأن قوله لا نعلم له وارثاً غيره إخبار عن عدم علمه بوارث آخر، وهو يعلم عدم علمه بوارث آخر، فلم تكن هذه شهادة بعلم القاضي أنه لا علم للشاهد به، وأما قوله: لا وارث له غيره إخبار عن نفي وارث آخر في نفسه، ولا علم له بذلك لا من حيث الحقيقة ولا من حيث الظاهر بمعاينة السبب على ما ذكرنا.
وجه الاستحسان: أن العمل بحقيقة هذه الشهادة إن تعذر من الوجه الذي قلتم أمكن العمل بمجازها بأن يجعل قولهما: لا وارث له غيره، كناية عن قولهما: لا نعلم وارثاً غيره، لأن عدم وارث آخر غير هذا المدعي متى ثبت على الحقيقة ثبت عدم العلم بوارث آخر غيره، فيمكن أن يجعل نفسه على الحقيقة كناية عن نفي علم.
الرابع: إذا قالا: لا نعلم له وارثاً آخر بأرض كذا غير فلان، قال أبو حنيفة رحمه الله: هذه الشهادة جائزة ويقضي له بالميراث، وقالا: لا تجوز هذه الشهادة ولا يقضى له بالميراث، وجه قولهما، أن وجود وارث في مكان آخر إن لم يثبت بشهادتهما نصاً فقد ثبت مقتضى تخصيصهما هذا المكان بنفي وارث آخر فيه، لأنه لو لم يكن له وارث آخر في مكان آخر لم يكن لتخصيص هذا المكان بالنفي فائدة والثابت اقتضاءً والثابت نصاً سواء، ولو ثبت وجود وارث آخر في مكان آخر نصاً بأن قالا: لا نعلم له وارثاً آخر في مكان كذا وله وارث آخر في مكان كذا، أليس إن القاضي لا يدفع المال إليه؟ كذا ههنا، ألا ترى أنهما لو قالا: لا نعلم له وارثاً آخر في هذا المجلس لا يقضى بالميراث له وطريقه ما قلنا، ولأبي حنيفة رحمه الله أن وجود آخر في مكان آخر لم يثبت بشهادتهما لا نصاً، ولا يقتضي تخصيصهما هذا المكان بالنفي فيه؛ لأن بهذا التخصيص فائدة أخرى.
ووجه ذلك: أنما لما لم يكن له وارث آخر في هذا المكان مع أنه مسقط رأسه، أولى أن لا يكون له وارث آخر في مكان آخر، ثم يقول: إن في هذا الكلام تقديم وتأخير يمكن تصحيح الشهادة لو حمل عليه، فيحمل عليه إذ يحتال بتصحيح الشهادة بقدر