البيان يقضى، فكان هذا بيان تعبير، وبيان التعبير يصح موصولاً ولا يصح مفصولاً كالشرط والاستثناء.
قال في كتاب «الأقضية» : شاهدان شهدا لرجل بألف درهم من ثمن جارية، فقال المشهود له: إنه قد أشهدهما هذه الشهادة والذي لي عليه من ثمن متاع أجزت شهادتهما، قالوا: وتأويل المسألة: إذا شهدوا على إقرار المدعى عليه بالألف من ثمن الجارية، فالمسألة محفوظة مذكورة في غير موضع من الكتب أنه إذا ادعى على آخر ألف درهم من ثمن مبيع، وشهد له الشهود بالألف من ضمان جارية غصبها إياه وقد هلكت، أنه لا يقبل شهادتهم وبمثله في الإقرار تقبل شهادتهم، واعتبر تكذيب المدعي الشاهد في السبب، ولم يعتبر تكذيب المقر له في السبب، والوجه في ذلك: أن المدعي بتكذيب الشاهد في السبب كذبه في بعض ما شهد به، وتكذيب المشهود له الشاهد في بعض الشهادة مانع قبول الشهادة لأنه تفسيق له وشهادة الفاسق لا تقبل، والمقر له بتكذيب المقر في السبب إن كذبه في بعض ما أقر به: ولكن تكذيب المقر في بعض ما أقر به لا يمنع صحة إقراره، فإقرار الفاسق صحيح مقبول بخلاف شهادة الفاسق، إذا ثبت هذا ظهر أن المراد به الشهادة على إقراره، والإقرار الثابت بالشهادة كالثابت معاينة، وقد ذكرنا في الإقرار المعاين أنه صحيح، يلزم مع اختلافهما في السبب كذا هذا.
والدليل على تأويل المسألة ما قلنا: إن محمداً رحمه الله قال في وضع المسألة: إن المشهود له قد أشهدهما هذه الشهادة، وهذا تنصيص على إقراره عندهما، فثبت أن تأويل المسألة ما قلنا من شهادتهما على الإقرار.
قال: وكذلك الكفالة لو شهدا أنه أقر أنه كفل بألف درهم عن فلان آخر، كان له أن يأخذه بالمال؛ لأنهما اتفقا فيما هو المقصود، فلا يضرهما الاختلاف في السبب. ولو قال الطالب: إنه لم يقر بها، وإنما أقر أنها كانت عن فلان الآخر فالشهادة باطلة، لأنه أكذب شاهده فيما شهد به من إقرار المطلوب، فبطلت شهادته بخلاف الأول لأنه لم يكذب شاهده، فثبت بشهادة إقرار المطلوب فصار كالمعاين، ثم هو كذب المطلوب في إقراره بسبب المال، وقد مر أن تكذيب المقر في بعض ما أقر به لا يمنع قبول إقراره فيما بقي.
قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في الرجل يدعي على رجل ألف درهم فيقول المدعى عليه: ما كان لك عليَّ شيء قط، أو قال: ليس لك عليَّ شيء، ثم أقام البينة على القضاء قبلت بينته؛ لأن التوفيق بين الكلامين ممكن، أما في قوله: ليس لك عليَّ شيء فظاهر، فإنه يقول: ليس لك عليَّ شيء لأني قضيته، وأما في قوله: ما كان لك عليَّ شيء قط، لأنه يمكنه أن يقول: لم يكن لك عليَّ شيء قط، لكن أذيتني بخصومتك الباطلة، فدفعت أذى خصومتك الباطلة بما طلبت مني.
ودلت هذه المسألة على أن التوفيق بين الكلامين إذا كان ممكناً، فالقاضي يوفق ويقبل بينة المدعي من غير التوفيق، وذكر هذه المسألة في «المنتقى» وقال: قبل ذلك منه عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.