فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: ٩) والمراد منه الخطبة، فقد أمر بالسعي إلى الخطبة، والأمر بالسعي إليها دليل على وجوبها؛ ولأن إقامة الجمعة مقام الظهر عرفت شرعاً بخلاف القياس، والشرع ما جاء بها إلا مقيداً بالخطبة، فإن النبي عليه السلام ما أقامها في عجزه من غير خطبة.
وبعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: الخطبة تقوم مقام ركعتين، ولهذا لا يجوز إلا بعد دخول وقت الجمعة، وفي حديث ابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم، «إنما قصرت الصلاة لمكان الخطبة» دليل على أن الخطبة شطر الصلاة، وهذا ليس بصحيح بدليل أن الإمام لا يستقبل القبلة عند الخطبة، ولا يقطعها الكلام ويعتد بها إذا أداها وهو محدث أو جنب على ما يأتي بيانه إن شاء الله.
وإذا ثبت أن الخطبة شرط يتفرع على هذا مسائل؛ إذا خطب الخطيب وحده جاز على قول أبي حنيفة وعلى قولهما لا يجوز، ذكر الخلاف على هذا الوجه في «متفرقات الفقيه أبي جعفر» ، ورأيت في موضع آخر أن عن أبي حنيفة رحمه الله في هذا الفصل روايتان.
وفي «نوادر المعلى» : عن أبي يوسف إذا خطب يوم الجمعة ونفر الناس عنه، ثم رجعوا صلى بهم الجمعة، ولو لم يرجعوا وجاء قوم آخرون لا يصلي بهم الجمعة إلا أن يعيد الخطبة، وفي ظاهر الرواية يصلي بهم الجمعة من غير أن يعيد الخطبة.
ولو خطب والقوم حضور إلا أنهم محدثون، أو كانوا جنباً فذهبوا وتوضؤوا ثم رجعوا وصلى بهم الجمعة جاز، ولو خطب وهناك رجال من بعيد لم يسمعوا الخطبة جاز، ولو خطب بالفارسية جاز عند أبي حنيفة على كل حال.
وروى بشر عن أبي يوسف: أنه إذا خطب بالفارسية وهو يحسن العربية لا يجزئه إلا أن يكون ذكر الله في ذلك العربية في حرف أو أكثر من قبل أنه يجزىء في الخطبة ذكر الله، وما زاد فهو فضل.
قال الحاكم أبو الفضل: هذا خلاف قوله المشهور، وإذا خطب الإمام في الجمعة قبل الزوال وصلى بعد الزوال لا يجوز، فإنه شرعت الخطبة شرطاً للجواز، والشرائط تكون مقدمة على المشروط إلا أنها شرط بمنزلة الركعتين وهو الشفع الثاني، وكما لا يجوز إقامة الشفع الثاني قبل الخطبة فكذا الخطبة، ولو خطب صبي يوم الجمعة وله منشور الوالي، وصلى بالناس بالغ جاز.
وفي «فتاوى خوارزم» : قال محمد رحمه الله: ويخطب الإمام قائماً يوم الجمعة؛ لما روي أن رجلاً سأل ابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهم أن الإمام يخطب يوم الجمعة قائماً أو قاعداً، قالا: أليس يتلو قول الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَرَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التّجَرَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرزِقِينَ}(الجمعة: ١١) كان رسول الله عليه السلام يخطب قائماً حين انفض عنه الناس بدخول العير المدينة، وهكذا جرى التوارث من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا، والذي روي أن عثمان