للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مِائَةِ سَنَةٍ. قَالَ: فَاللَّهُ أَمَاتَنِي مِائَةَ سَنَةٍ ثُمَّ بَعَثَنِي. قَالَتْ: فَعُزَيْرٌ كَانَ مُسْتَجَابُ الدَّعْوَةِ لِلْمَرِيضِ وَصَاحِبِ الْبَلَاءِ فَيُفِيقُ، فَادْعُ اللَّهَ يَرُدُّ عَلَيَّ بَصَرِي، فَدَعَا اللَّهَ وَمَسَحَ عَلَى عَيْنَيْهَا بِيَدِهِ فَصَحَّتْ مَكَانَهَا كَأَنَّهَا أُنْشِطَتْ مِنْ عِقَالٍ. قَالَتْ: أَشْهَدُ أَنَّكَ عُزَيْرٌ! ثُمَّ انْطَلَقَتْ إِلَى مَلَإِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَفِيهِمُ ابْنٌ لِعُزَيْرٍ شَيْخٌ ابن مائة وثمانية وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَبَنُو بَنِيهِ شُيُوخٌ، فَقَالَتْ: يَا قَوْمُ، هَذَا وَاللَّهِ عُزَيْرٌ! فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ ابْنُهُ مَعَ النَّاسِ فَقَالَ ابْنُهُ: كَانَتْ لِأَبِي شَامَةٌ سَوْدَاءُ مِثْلَ الْهِلَالِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَنَظَرَهَا فَإِذَا هُوَ عُزَيْرٌ. وَقِيلَ: جَاءَ وَقَدْ هَلَكَ كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ، فَكَانَ آيَةً لِمَنْ كَانَ حَيًّا مِنْ قَوْمِهِ إِذْ كَانُوا مُوقِنِينَ بِحَالِهِ سَمَاعًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي إِمَاتَتِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ ثُمَّ إِحْيَائِهِ بَعْدَهَا أَعْظَمُ آيَةٍ، وَأَمْرُهُ كُلُّهُ آيَةٌ غَابِرَ الدَّهْرِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَخْصِيصِ بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ بِالزَّايِ وَالْبَاقُونَ بِالرَّاءِ، وَرَوَى أَبَانٌ عَنْ عَاصِمٍ" نَنْشُرُهَا" بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الشِّينِ وَالرَّاءِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو حَيْوَةَ، فَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ فِي الْإِحْيَاءِ بِمَعْنًى، كَمَا يُقَالُ رَجَعَ وَرَجَعْتُهُ، وَغَاضَ الْمَاءُ وَغِضْتُهُ، وَخَسِرَتِ الدَّابَّةُ وَخَسِرْتُهَا، إِلَّا أَنَّ الْمَعْرُوفَ فِي اللُّغَةِ أَنْشَرَ اللَّهُ الْمَوْتَى فَنَشَرُوا، أَيْ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ فَحَيُوا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ" «١» ويكون نشرها مثل نَشَرَ الثَّوْبَ. نَشَرَ الْمَيِّتُ يَنْشُرُ نُشُورًا أَيْ عَاشَ بَعْدَ الْمَوْتِ، قَالَ الْأَعْشَى:

حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا ... يَا عَجَبَا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ

فَكَأَنَّ الْمَوْتَ طَيٌّ لِلْعِظَامِ وَالْأَعْضَاءِ، وَكَأَنَّ الْإِحْيَاءَ وَجَمْعَ الْأَعْضَاءِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ نَشْرٌ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ" نُنْشِزُها" بِالزَّايِ فَمَعْنَاهُ نَرْفَعُهَا. وَالنَّشْزُ: الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ، قَالَ:

تَرَى الثَّعْلَبَ الْحَوْلِيَّ فِيهَا كَأَنَّهُ ... إِذَا مَا عَلَا نَشْزًا حَصَانٌ مُجَلَّلُ

قَالَ مَكِّيٌّ: الْمَعْنَى: انْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نَرْفَعُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي التَّرْكِيبِ لِلْإِحْيَاءِ، لِأَنَّ النَّشْزَ الِارْتِفَاعُ، وَمِنْهُ الْمَرْأَةُ النَّشُوزُ، وَهِيَ الْمُرْتَفِعَةُ عَنْ مُوَافَقَةِ زَوْجِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا" «٢» أَيِ ارْتَفِعُوا وَانْضَمُّوا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ بِالرَّاءِ بِمَعْنَى الْإِحْيَاءِ، وَالْعِظَامُ لَا تَحْيَا عَلَى الِانْفِرَادِ حَتَّى يَنْضَمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَالزَّايُ أَوْلَى بِذَلِكَ الْمَعْنَى، إِذْ هو


(١). راجع ج ١٩ ص ٢١٥.
(٢). راجع ج ١٧ ص ٢٩٦