للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وسمع ابن سيرين رجلا يقول لرجل: وفعلت إِلَيْكَ وَفَعَلْتُ! فَقَالَ لَهُ: اسْكُتْ فَلَا خَيْرَ فِي الْمَعْرُوفِ، إِذَا أُحْصِيَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" إِيَّاكُمْ وَالِامْتِنَانَ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الشُّكْرَ وَيَمْحَقُ الْأَجْرَ- ثُمَّ تَلَا-" لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ". الثَّانِيَةُ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: كَرِهَ مَالِكٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ صَدَقَتَهُ الْوَاجِبَةَ أَقَارِبَهُ لِئَلَّا يَعْتَاضَ مِنْهُمُ الْحَمْدَ وَالثَّنَاءَ، وَيُظْهِرَ مِنَّتَهُ عَلَيْهِمْ وَيُكَافِئُوهُ عَلَيْهَا فَلَا تَخْلُصُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاسْتَحَبَّ أَنْ يُعْطِيَهَا الْأَجَانِبَ، وَاسْتَحَبَّ أَيْضًا أَنْ يُوَلِّيَ غَيْرَهُ تَفْرِيقَهَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ عَدْلًا، لِئَلَّا تَحْبَطَ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى وَالشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ وَالْمُكَافَأَةِ بِالْخِدْمَةِ مِنَ الْمُعْطَى. وَهَذَا بِخِلَافِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ السِّرِّ، لِأَنَّ ثَوَابَهَا إِذَا حَبِطَ سَلِمَ مِنَ الْوَعِيدِ وَصَارَ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَالْوَاجِبُ إِذَا حَبِطَ ثَوَابُهُ تَوَجَّهَ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ إِبْطَالَ" كَالَّذِي" فَهِيَ نَعْتٌ لِلْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْضِعَ الْحَالِ. مَثَّلَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِي يَمُنُّ وَيُؤْذِي بِصَدَقَتِهِ بِالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ لَا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِالْكَافِرِ الَّذِي يُنْفِقُ لِيُقَالَ جَوَّادٌ وَلِيُثْنَى عَلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الثَّنَاءِ. ثُمَّ مَثَّلَ هَذَا الْمُنْفِقَ أَيْضًا بِصَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَيَظُنُّهُ الظَّانُّ أَرْضًا مُنْبِتَةً طَيِّبَةً، فَإِذَا أَصَابَهُ وَابِلٌ مِنَ الْمَطَرِ أَذْهَبَ عَنْهُ التُّرَابَ وَبَقِيَ صَلْدًا، فَكَذَلِكَ هَذَا الْمُرَائِي. فَالْمَنُّ وَالْأَذَى وَالرِّيَاءُ تَكْشِفُ عَنِ النِّيَّةِ فِي الْآخِرَةِ فَتَبْطُلُ الصَّدَقَةُ كَمَا يَكْشِفُ الْوَابِلُ عَنِ الصَّفْوَانِ، وَهُوَ الْحَجَرُ الْكَبِيرُ الْأَمْلَسُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ إِبْطَالُ الْفَضْلِ دُونَ الثَّوَابِ، فَالْقَاصِدُ بِنَفَقَتِهِ الرِّيَاءَ غَيْرُ مُثَابٍ كَالْكَافِرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ. وَخَالَفَ صَاحِبُ الْمَنِّ وَالْأَذَى الْقَاصِدَ وَجْهَ اللَّهِ الْمُسْتَحِقَّ ثَوَابَهُ- وَإِنْ كَرَّرَ عَطَاءَهُ- وَأَبْطَلَ فَضْلَهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا يَبْطُلُ مِنْ ثَوَابِ صَدَقَتِهِ مِنْ وَقْتِ مَنِّهِ وَإِيذَائِهِ، وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ يُكْتَبُ لَهُ وَيُضَاعَفُ، فَإِذَا مَنَّ وَآذَى انْقَطَعَ التَّضْعِيفُ، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تُرْبَى لِصَاحِبِهَا حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ، فَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا خَالِصَةً عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ ضُوعِفَتْ، فَإِذَا جَاءَ الْمَنُّ بِهَا وَالْأَذَى وُقِفَ بِهَا هُنَاكَ وَانْقَطَعَ زِيَادَةُ التَّضْعِيفِ عَنْهَا، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ «١» والله أعلم.


(١). في هـ: أولى.