للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بِطَاعَةِ الْبِنْتِ لَهُ كَانَ بِأَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ بِقُدْرَتِهِ عَلَى الْمَالِ الَّذِي يَسْتَأْجِرُ بِهِ أَوْلَى. فَأَمَّا إِنْ بَذَلَ لَهُ الْمَالَ دُونَ الطَّاعَةِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ وَالْحَجُّ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَصِيرُ بِبَذْلِ الْمَالِ لَهُ مُسْتَطِيعًا. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ لَيْسَ مَقْصُودُهُ الْإِيجَابَ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ الْحَثُّ عَلَى بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالنَّظَرُ فِي مَصَالِحِهِمَا دُنْيَا؟ وَدِينًا وَجَلْبُ الْمَنْفَعَةِ إِلَيْهِمَا جِبِلَّةً وَشَرْعًا، فَلَمَّا رَأَى مِنَ الْمَرْأَةِ انْفِعَالًا وَطَوَاعِيَةً ظَاهِرَةً وَرَغْبَةً صَادِقَةً فِي بِرِّهَا بِأَبِيهَا وَحِرْصًا عَلَى إِيصَالِ الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ إِلَيْهِ، وَتَأَسَّفَتْ أَنْ تَفُوتَهُ بَرَكَةُ الْحَجِّ أَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ. كَمَا قَالَ لِلْأُخْرَى الَّتِي قَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: (حُجِّي عَنْهَا أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ)؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّطَوُّعَاتِ وَإِيصَالِ الْبِرِّ وَالْخَيْرَاتِ لِلْأَمْوَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ شَبَّهَ فِعْلَ الْحَجِّ بِالدَّيْنِ. وَبِالْإِجْمَاعِ لَوْ مَاتَ مَيِّتٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَجِبْ عَلَى وَلِيِّهِ قَضَاؤُهُ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ تَطَوَّعَ بِذَلِكَ تَأَدَّى الدَّيْنُ عَنْهُ. وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى أَبِيهَا مَا صَرَّحَتْ بِهِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ بِقَوْلِهَا" لَا يَسْتَطِيعُ" وَمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ. وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ الْوُجُوبِ وَمَنْعِ الْفَرِيضَةِ، فَلَا يَجُوزُ مَا انْتَفَى فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ قَطْعًا أَنْ يَثْبُتَ فِي آخِرِهِ ظَنًّا، يُحَقِّقُهُ قَوْلُهُ: (فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى) فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ إِجْمَاعًا، فَإِنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ أَوْلَى بِالْقَضَاءِ، وَبِهِ يُبْدَأُ إِجْمَاعًا لِفَقْرِ الْآدَمِيِّ وَاسْتِغْنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ حَدِيثَ الْخَثْعَمِيَّةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ مَخْصُوصٌ بِهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: فِيهِ اضْطِرَابٌ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَأَبُو مُصْعَبٍ: هُوَ فِي حَقِّ الْوَلَدِ خَاصَّةً. وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: جَاءَتِ الرُّخْصَةُ فِي الْحَجِّ عَنِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا مَنْهَضَ لَهُ وَلَمْ يَحُجَّ وَعَمَّنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَلَدُهُ وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ وَيُجْزِئُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى الْمَعْضُوبِ وَشَبَهِهِ. وَحَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ، وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى الْحَسَنِ قَوْلَهُ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ حَجُّ الْمَرْأَةِ عَنِ الرَّجُلِ. الثَّامِنَةُ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُكَلَّفِ قُوتٌ يَتَزَوَّدُهُ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَجُّ. وَإِنْ وَهَبَ لَهُ أَجْنَبِيٌّ مَالًا يَحُجُّ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ إِجْمَاعًا، لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمِنَّةِ فِي ذَلِكَ. فَلَوْ كَانَ رَجُلٌ وَهَبَ لِأَبِيهِ مَالًا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ، لِأَنَّ ابْنَ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ وَلَا مِنَّةَ عَلَيْهِ