للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَلا جُناحَ عَلَيْهِ" أَيْ لَا إِثْمَ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْجُنُوحِ وَهُوَ الْمَيْلُ، وَمِنْهُ الْجَوَانِحُ لِلْأَعْضَاءِ لِاعْوِجَاجِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَأْوِيلُ عَائِشَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ" وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَ، إِبَاحَةُ الْفِعْلِ. وَقَوْلُهُ: لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ أَلَّا تَفْعَلَ، إِبَاحَةٌ لِتَرْكِ الْفِعْلِ، فَلَمَّا سَمِعَ عُرْوَةُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى:" فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما" قَالَ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الطَّوَافِ جَائِزٌ، ثُمَّ رَأَى الشَّرِيعَةَ مُطْبِقَةً عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ لَا رُخْصَةَ فِي تَرْكِهِ فَطَلَبَ الْجَمْعَ بَيْنَ هَذَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ. فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: لَيْسَ قَوْلُهُ:" فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما" دَلِيلًا عَلَى تَرْكِ الطَّوَافِ، إِنَّمَا كَانَ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى تَرْكِهِ لَوْ كَانَ" فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا" فَلَمْ يَأْتِ هَذَا اللَّفْظُ لِإِبَاحَةِ تَرْكِ الطَّوَافِ، وَلَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ لِإِفَادَةِ إِبَاحَةِ الطَّوَافِ لِمَنْ كَانَ يَتَحَرَّجُ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ لِمَنْ كَانَ يَطُوفُ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَصْدًا لِلْأَصْنَامِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الطَّوَافَ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ إِذَا لَمْ يَقْصِدِ الطَّائِفُ قَصْدًا بَاطِلًا". فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ" فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا" وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَيُرْوَى أَنَّهَا فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ كَذَلِكَ، وَيُرْوَى عَنْ أَنَسٍ مِثْلُ هَذَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ مَا فِي الْمُصْحَفِ، وَلَا يُتْرَكُ مَا قَدْ ثَبَتَ فِي الْمُصْحَفِ إِلَى قِرَاءَةٍ لَا يُدْرَى أَصَحَّتْ أَمْ لَا، وَكَانَ عَطَاءٌ يُكْثِرُ الْإِرْسَالَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ غَيْرِ سَمَاعٍ. وَالرِّوَايَةُ فِي هَذَا عَنْ أَنَسٍ قَدْ قِيلَ إِنَّهَا لَيْسَتْ بِالْمَضْبُوطَةِ، أَوْ تَكُونُ" لَا" زَائِدَةَ لِلتَّوْكِيدِ، كَمَا قَالَ:

وَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَلَّا تَسْخَرَا ... لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمْطَ الْقَفَنْدَرَا «١»

السَّابِعَةُ- رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا فَقَرَأَ:" وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى" وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ، ثُمَّ أَتَى الْحَجَرَ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ قَالَ: (نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ) فَبَدَأَ بِالصَّفَا وَقَالَ «٢» " إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ"


(١). القفندر: القبيح المنظر.
(٢). الذي في صحيح الترمذي:" وقرأ". [ ..... ]