للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يُبْدَأُ بِالصَّفَا قَبْلَ الْمَرْوَةِ، فَإِنْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ قَبْلَ الصَّفَا لَمْ يُجْزِهِ وَيَبْدَأُ بِالصَّفَا. الثَّامِنَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ: هُوَ رُكْنٌ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ). خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَكَتَبَ بِمَعْنَى أَوْجَبَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ"، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ). وَخَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أُمِّ وَلَدٍ لِشَيْبَةَ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَهُوَ يَقُولُ: (لَا يُقْطَعُ الْأَبْطَحُ إِلَّا شَدًّا «١») فَمَنْ تَرَكَهُ أَوْ شَوْطًا مِنْهُ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا رَجَعَ مِنْ بَلَدِهِ أَوْ مِنْ حَيْثُ ذَكَرَ إِلَى مَكَّةَ، فَيَطُوفُ وَيَسْعَى، لِأَنَّ السَّعْيَ لَا يَكُونُ إِلَّا مُتَّصِلًا بِالطَّوَافِ. وَسَوَاءٌ عِنْدَ مَالِكٍ كَانَ ذَلِكَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعُمْرَةِ فَرْضًا، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَصَابَ النِّسَاءَ فَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَهَدْيٌ عِنْدَ مَالِكٍ مَعَ تَمَامِ مَنَاسِكِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ هَدْيٌ، وَلَا مَعْنَى لِلْعُمْرَةِ إِذَا رَجَعَ وَطَافَ وَسَعَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَإِنْ تَرَكَهُ أَحَدٌ مِنَ الْحَاجِّ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بِلَادِهِ جَبَرَهُ بِالدَّمِ، لِأَنَّهُ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ «٢». وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَأَنْسِ بْنِ مَالِكٍ وَابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ تَطَوُّعٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً". وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" يَطَّوَّعُ" مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ، وَكَذَلِكَ" فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ" الْبَاقُونَ" تَطَوَّعَ" مَاضٍ، وَهُوَ مَا يَأْتِيهِ الْمُؤْمِنُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَمَنْ أَتَى بِشَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ فَإِنَّ اللَّهَ يَشْكُرُهُ. وَشُكْرُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ إِثَابَتُهُ عَلَى الطَّاعَةِ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَا ذَكَرْنَا، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ) فَصَارَ بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْحَجِّ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا، كَبَيَانِهِ لِعَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَمَا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يُتَّفَقْ عَلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ أَوْ تَطَوُّعٌ. وَقَالَ طُلَيْبٌ: رَأَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْمًا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقَالَ: هَذَا مَا أَوْرَثَتْكُمْ أمكم أم إسماعيل.


(١). شدا: أي عدوا.
(٢). العتبية: كتاب في مذهب الامام مالك، نسبت إلى مؤلفها فقيه الأندلسي محمد بن أحمد بن عبد العزيز العتبى القرطبي المتوفى سنة ٢٥٤ هـ.