للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان حقيقة المتقين وسبب اختصاصهم بالهداية]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وخصت الهداية للمتقين كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:٤٤]، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:٨٢] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن؛ لأنه هو في نفسه هدى، ولكن لا يناله إلا الأبرار، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:٥٧].

وقد قال السدي عن أبي مالك ووعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:٢] يعني: نوراً للمتقين.

وقال أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:٢] قال: هم المؤمنون الذين يتقون الشرك بي ويعملون بطاعتي.

وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: {لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:٢] قال: الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به.

وقال سفيان الثوري: عن رجل عن الحسن البصري: قوله تعالى: {لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:٢] قال: اتقوا محارم الله عليهم وأدوا ما افترض عليهم.

وقال أبو بكر بن عياش: سألني الأعمش عن المتقين فأجبته، فقال لي: سل عنها الكلبي، فسألته فقال: الذين يجتنبون كبائر الإثم، قال: فرجعت إلى الأعمش فقال: يرى أنه كذلك، ولم ينكره.

وقال قتادة: {لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:٢]: هم الذين نعتهم الله بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة:٣] الآية والتي بعدها، واختار ابن جرير أن الآية تعم ذلك كله، وهو كما قال].

وكل هذه الأقوال حق، وأصل التقوى: توحيد الله، وإخلاص الدين له، وأداء الفرائض، والامتناع عن المحارم، وإذا ارتكب المرء شيئاً من المحرمات أو قصر في شيء من الواجبات نقصت التقوى وضعفت، فالمؤمن يتقي الشرك، ويتقي الخلود في النار ولو كان عاصياً، ولكن إذا اتقى الشرك والمعاصي، وأدى ما أوجب الله عليه كملت التقوى فدخل الجنة من أول وهلة.

أما إذا اتقى الشرك ولم يتق الكبائر ومات عليها من غير توبة فقد اتقى خلود النار، وحينئذ قد يدخل النار تحت مشيئة الله وقد يعفى عنه.

وأما الهداية فالمراد بها هداية التوفيق والتسديد، خاصة هداية القلوب، أما هداية البيان والإرشاد والدلالة فهي حاصلة لكل البشر كما سيذكره المؤلف رحمه الله، فهداية الدلالة والإرشاد عامة لكل أحد حتى الكفار، وهذه لابد منها في قيام الحجة، فلا تقوم الحجة حتى تحصل هذه الهداية لكل أحد، قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت:١٧] يعني: دللناهم، فهي هداية دلالة وإرشاد {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:١٧] وهي المثبتة للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:٥٢].

أما هداية الإلهام والتوفيق والتسديد فهذه لا يقدر عليها إلا الله، وهذه قد نفاها الله عن نبيه في قوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:٥٦] يعني: لا توفق ولا تلهم، ولا تجعله يقبل الحق ويرضى به، وهذه الآية نزلت تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم لما مات أبو طالب على الشرك، وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هدايته، فأنزل الله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:٥٦].

أما هداية الدلالة والإرشاد فقد قال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:٥٢] يعني: ترشد وتدل.

وقد ذكر الحافظ ابن كثير أقوال السلف في معنى قوله تعالى: ((هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)) وهذا كله حق، فالسلف يفسرون الكلمات يفسرونها ببعض معناها، والمراد الجميع، فمن السلف من قال: هي كذا، ومنهم من قال: هي كذا، ففسرها بعض السلف ببعضها، مثل الذي يقول: أو التقوى: الصلاة، التقوى: الزكاة، ومن عادة السلف أنهم يفسرون الشيء ببعض معناه، والمراد الجميع.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد روى الترمذي وابن ماجه من رواية أبي عقيل عن عبد الله بن يزيد عن ربيعة بن يزيد وعطية بن قيس عن عطية السعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس فيه حذراً مما به بأس) ثم قال الترمذي: حسن غريب].

قوله: [يدع ما لا بأس به] يعني: يترك ما ليس به بأس، يترك التوسع في المباحات حذراً من الوقوع في المحرمات، ولهذا فالسابقون المقربون يفعلون الواجبات والمستحبات، ويتركون المحرمات والمكروهات.

وهذا الحديث فيه عبد الله بن عقيل، وفي حفظه ضعف، قال الجوزجاني: عبد الله بن يزيد روى عنه ابن عقيل أحاديث منكرة.

لكن المعنى صحيح، وهو أن يترك العبد التوسع في المباحات خشية الوقوع في المكروهات أو في المحرمات.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن عمران عن إسحاق بن سليمان - يعني الرازي - عن المغيرة بن مسلم عن ميمون أبي حمزة قال: كنت جالساً عند أبي وائل، فدخل علينا رجل يقال له: أبو عفيف من أصحاب معاذ رضي الله عنه، فقال له شقيق بن سلمة: يا أبا عفيف! ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل؟ قال: بلى، سمعته يقول: (يحبس الناس يوم القيامة في بقيع واحد، فينادي مناد: أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر).

قلت: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا لله العبادة فيمرون إلى الجنة].

وهذا الحديث تكلم فيه الشيخ مقبل فقال: أثر معاذ في سنده ميمون أبو حمزة الأعور، قال عبد الله عن أبيه: ضعيف الحديث، وقال مرة: متروك الحديث كما في تهذيب التهذيب.