للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا)]

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:٣٠ - ٣١].

قال المؤلف رحمخه الله تعالى: [لما ذكر الله تعالى حال الأشقياء ثنى بذكر السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به, وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة, فلهم جنات عدن والعدن: الإقامة, {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الكهف:٣١]، أي: من تحت غرفهم ومنازلهم قال فرعون: {وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:٥١]، الآية {يُحَلَّوْنَ} [الكهف:٣١]، أي: من الحلية، {فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الكهف:٣١] وقال في المكان الآخر: {وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:٢٣] وفصله هاهنا فقال: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} [الكهف:٣١] فالسندس: ثياب رفاع رقاق كالقمصان وما جرى مجراها وأما الإستبرق: فغليظ الديباج، وفيه بريق.

وقوله: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} [الكهف:٣١] الاتكاء: قيل: الاضطجاع وقيل: التربع في الجلوس وهو أشبه بالمراد هاهنا ومنه الحديث الصحيح (أما أنا فلا آكل متكئا) فيه القولان.

والأرائك: جمع أريكة.

وهي: السرير تحت الحجلة والحجلة كما يعرفه الناس في زماننا هذا بالبشخانة.

والله أعلم].

فهذه الآية الكريمة فيها: بيان جزاء الموحدين الذين آمنوا وعملوا الصالحات, وأن لهم الجنة فالله تعالى أعد دار كرامته وجنته للمؤمنين الموحدين, وحرمها على الكافرين, فمن مات على الشرك وعلى الكفر فالجنة عليه حرام، كما قال الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:٧٢].

وثبت في الحديث الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر منادياً ينادي في بعض غزواته: أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة).

وكذلك بعث مؤذنين عليه الصلاة والسلام, يؤذنون في الناس في منى في الحج في السنة التاسعة: (لا يحج بعد العام مشرك, ولا يطوف بالبيت عريان, ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة, ومن كان له عهد فهو إلى عهده, ومن ليس له عهد فمدته أربعة أشهر) كذلك بعث أبو بكر أبا هريرة مع المؤذنين ينادي في الناس في منى في السنة التاسعة من الهجرة.

فالجنة أعدها الله للمؤمنين الموحدين, فمن مات على التوحيد والإيمان فله الجنة والكرامة، ومن مات على الشرك فالجنة عليه حرام.

نسأل الله السلامة والعافية.

ولهذا قال في سورة الكهف: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف:١٠٧] وقال هنا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:٣٠ - ٣١] فهذا جزاء من آمن بالله ووحده, وأخلص له العبادة وبقى على التوحيد الخالص الخالي من الشرك والبدع والكبائر ومات عليه، فإنه يدخل الجنة من أول وهلة, فضلاً من الله وإحساناً.

والذين يدخلون الجنة من أول وهلة صنفان من الناس.

الصنف الأول: السابقون المقربون، الذين وحدوا الله وتقربوا إليه بأداء الفرائض, ونشطوا أيضاً فابقوا في نوافل العبادات وتركوا المحرمات، ونشطوا أيضاً فتركوا المكروهات وفضول المباحات.

والصنف الثاني: أصحاب اليمين الذين أدوا الفرائض والواجبات، ولم يكن عندهم نشاط في فعل المستحبات والمندوبات, وتركوا المحرمات، ولم يكن عندهم نشاط في ترك المكروهات وفضول المباحات.

وأما الصنف الثالث: فهم الظالمون لأنفسهم الذين وحدوا الله وأخلصوا له العبادة ولم يقعوا في الشرك ولكنهم ماتوا على كبائر من غير توبة، فهذا مات على الزنى, وهذا على السرقة, وهذا على شرب الخمر, وهذا على عقوق الوالدين, وهذا على قطيعة الرحم, فهؤلاء على خطر, فمنهم من يعذب في القبر كما في قصة الرجلين الذين رآهما النبي صلى الله عليه وسلم يعذبان كما في حديث ابن عباس في قبريهما؛ لأن أحدهما كان يمشي بالنميمة، والآخر كان لا يستتر من بوله، وقد يعفى عنه كما قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:٤٨] فقد يعفو الله عنه بالتوحيد والإيمان والإسلام، وقد يعذبه فقد ثبت أن بعض أهل الكبائر لا تأكل النار وجوههم، ولكنهم ماتوا على كبائر من غير توبة فهم يعذبون في النار على قدر ذنوبهم، ثم في النهاية يخرجون منها إلى الجنة والكرامة ولا يبقى في النار إلا الكفرة.

فأهل التوحيد هم أهل الجنة والكرامة، فأما السابقون والمقربون فيدخلون الجنة من أول وهلة، وأما المقتصدون فمنهم من يدخلها من أول وهلة ويعفى عنهم, ومنهم من لا يعفى عنه, ومنهم من يعذب في قبره, ومنهم من تصيبه الأهوال والشدائد, ومنهم من يشفع فيه فلا يدخل النار, ومنهم من يدخل النار ثم يخرج منها في النهاية بعد أن يطهر من هذه النار.

وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} [الكهف:٣١] والجنات: البساتين, وعدن: إقامة، قال تعالى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الكهف:٣١]، أي: أنهار اللبن, وأنهار الماء, وأنهار الخمر, وأنهار العسل.

قال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الكهف:٣١] ويحلون: يلبسون الحلي في الجنة، ولو كانوا رجالاً, وأما في الدنيا فالحلية للنساء, وفي الجنة يحلى المؤمن ولو كان رجلاً, فيحلى في يديه، كما قال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ} [الكهف:٣١]، أي: يلبس في يديه أساور من ذهب, قال تعالى: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا} [الكهف:٣١] أي: ثياباً حريراً, وفي الدنيا يحرم على الرجل أن يلبس الحرير, وأما في الآخرة فله ذلك, قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة).

وقوله: خضراً هي نوعان من الحرير: نوع رقيق، ويقال له: السندس، ونوع غليظ، ويقال له: الإستبرق، وله بريق ولمعان، قال تعالى: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} [الكهف:٣١] وقد ذكر الحافظ رحمه الله هنا أن الاتكاء إما اضطجاعاً وإما تربعاً.

وقد ذكر بعض أهل العلم في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا لا آكل متكئاً) , أن الاتكاء هو: التربع.

كما فسرها الخطابي، وقال بعضهم: هو أن يتكئ إما على يده اليمنى وإما على يده اليسرى.

وهذا هو الأقرب فيكون معنى متكئاً: معتمداً على شيء.

والأرائك: جمع أريكة وهي كما قال الحافظ: معروفة وتسمى بشخانة باللغة الفارسية وهي: الحجلة، أي: قبة في وسطها سرير، وقد ذكرها ابن القيم رحمه الله في النونية الكافية الشافية, وتسمى في اللغة العربية الأريكة، نسأل الله من فضله.

قال المؤلف رحمه الله: [قال عبد الرازق أخبرنا معمر عن قتادة {عَلَى الأَرَائِكِ} [الكهف:٣١] قال: هي الحجال، قال معمر: وقال غيره السرر في الحجال.

وقوله: {نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:٣١]، أي: نعمت الجنة ثواباً على أعمالهم {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:٣١] أي: حسنت منزلاً ومقيلاً ومقاماً, كما قال في النار: {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:٢٩] وهكذا قابل بينهما في سورة الفرقان في قوله: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:٦٦].

ثم ذكر صفات المؤمنين فقال: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:٧٥ - ٧٦]].

وفي هذه الآية الكريمة دليل على: أن الجنة أعدها الله للمؤمنين, وأن المؤمنين الموحدين هم أهل الجنة والكرامة, وفي الآية السابقة دليل على أن النار أعدها الله للكفار.

فالمؤمنون الموحدون أعد الله لهم الجنة, والعاصي بين بين، فهو من أهل الجنة لكنه قد يعذب بمعاصيه إذا مات على الكبائر, وقد يعفى عنه، وقد يعذب في النار ثم يخرج منها.