[تفسير قوله تعالى: (وأذن في الناس بالحج)]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:٢٧] أي: ناد في الناس داعياً لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، فذكر أنه قال: يا رب، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم، فقيل ناد وعلينا البلاغ].
ومعنى لا ينفذهم: من أنفذ ينفذ، يعني: لا يبلغهم، أي: كيف أبلغ الناس، وصوتي لا يبلغهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقام على مقامه، وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل: على أبي قبيس، وقال: يا أيها الناس! إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض].
وهذا يعني: أن الجبال انخفضت حتى سمع الناس صوت إبراهيم عليه السلام.
قوله: وقيل على الحجر، وليس الحجر؛ لأنه لم يكن يوجد حجر في زمان إبراهيم عليه السلام، إنما الحجر أخرجته قريش بعد ذلك بمدة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك.
هذا مضمون ما روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف، والله أعلم.
أوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة.
وقوله: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:٢٧]، قد يستدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشياً -لمن قدر عليه- أفضل من الحج راكباً؛ لأنه قدمهم في الذكر، فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم وشدة عزمهم.
والذي عليه الأكثرون أن الحج راكباً أفضل؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حج راكباً مع كمال قوته عليه السلام].
وهذا هو الصواب، فالحج راكباً هو أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حج راكباً، وقال: (اللهم حجاً لا رياء فيه ولا سمعة)، فبعض الناس قد يتنطع ويظن أن الحج ماشياً أفضل، والأمر على عكس ذلك، فإن الأفضل ما كان أرفق بالعبد، والحج راكباً أرفق بالإنسان، وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ} [الحج:٢٧] يعني: طريق، كما قال: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا} [الأنبياء:٣١]، وقوله: {عَمِيقٍ} [الحج:٢٧] أي: بعيد، قاله مجاهد وعطاء والسدي وقتادة ومقاتل بن حيان والثوري وغير واحد.
وهذه الآية كقوله تعالى إخباراً عن إبراهيم عليه السلام حيث قال في دعائه: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:٣٧]، فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو حين إلى رؤية الكعبة والطواف، فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار].
وكل من جاءه فإنه يشتاق إليه بعد ذلك ويحن إليه، ولا يقضي منه وطراً، وإذا أراد أن ينصرف سأل الله أن يجعل آخر عهده بالبيت، فالمسلم مهما تردد على هذا البيت فإنه يجد في نفسه ميلاً وانجذاباً إليه، وهذا من استجابة الله لدعوة نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام حين قال: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:٣٧].
ومحبة هذا البيت تعتبر من الإيمان، وهي تدل على وجود الخير في نفس هذا العبد.
وكما سبق وقلنا إن الحج راكباً أفضل من الحج ماشياً، ولكن بعضهم قد يفضل الحج ماشياً ويحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله عنها: (أجرك على قدر نصبك)، وذلك حين حاضت وهي في الحج أو العمرة.
فنقول: إن فعل النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على هذا، ولا نشك أنه إذا حصل له مشقة فهو مأجور، لكن عليه ألا يتعمد أن يوجد المشقة، فكون الإنسان يؤدي العبادة بارتياح وطمأنينة وراحة أفضل من أن يؤديها بمشقة وأرفق به، والنبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، وقد أمر الصحابة أن يتحللوا لما أحرموا بالحج مفردين وقارنين، وألزمهم بذلك؛ لأن هذا أرفق بهم، فالأفضل ما كان أرفق بالمتعبد، وعليه ألا يتعمد المشقة، لكن إذا أصابته فهو مأجور.