للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أقسام أحاديث أهل الكتاب وحكم نقلها عنهم]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو].

هذا فيما يروى عن بني إسرائيل مما لم يخالف الكتاب والسنة؛ لأن أقوال بني إسرائيل على ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن يكون الخبر عن بني إسرائيل يخالف ما جاء في القرآن العزيز والسنة المطهرة، فهذا باطل مردود.

الحالة الثانية: أن يكون موافقاً لما جاء في الكتاب والسنة، وهذا مقبول.

الحالة الثالثة: أن يكون ذلك الخبر لم يأت في القرآن ولا في السنة ما يخالفه ولا ما يوافقه، وهذا هو الذي يحدث به ولا يصدق ولا يكذب، وهو المقصود في قوله صلى الله عليه وسلم: (وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا كان عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يوم اليرموك قد أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك].

يعني: من الأشياء التي لم تخالف النصوص على حسب اجتهاده، فقد وجد زاملتين من كتب أهل الكتاب في الشام، وكانت تابعة لأهل الكتاب، فوجد الزاملتين فجعل يحدث منهما عنهم، ولهذا فإن أحاديث عبد الله بن عمرو كثير منها عن بني إسرائيل.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتضاد، فإنها على ثلاثة أقسام: أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح.

والثاني: ما علمنا كذبه مما عندنا مما يخالفه.

والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في هذا كثيراً، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم وعدتهم وعصا موسى من أي الشجر كانت، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى].

ومثله -أيضاً- الشجرة التي أكل منها آدم، فكل هذا لا يترتب عليه فائدة، وإنما العبرة في معرفة أن آدم أكل من الشجرة، أما أن الشجرة هي شجرة كذا أو شجرة كذا فلا فائدة في ذلك، وكذلك كون أهل الكهف كان لون كلبهم أحمر أو غير ذلك، وأن اسم فلان منهم كذا واسم فلان كذا كل ذلك لا عبرة فيه، فالعبرة بالقصة التي حصلت، أما معرفة الأسماء، ومعرفة لون الكلب، ومعرفة عصا موسى من أي الشجر هي، ومعرفة الشجرة التي أكل منها آدم عليه السلام، كل هذا لا يترتب عليه شيء، وما وجد من مثل هذا فهو من أخبار بني إسرائيل التي لا تصدق ولا تكذب.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دينهم ولا دنياهم].

ولو كان فيه فائدة تعود علينا في ديننا أو دنيانا لبينه الله تعالى.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز، كما قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف:٢٢]].

هذا الكلام يعود إلى علماء أهل الكتاب.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز، كما قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:٢٢]، فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام وتعليم ما ينبغي في مثل هذا، فإنه تعالى حكى عنهم ثلاثة أقوال، ضعف القولين الأولين وسكت عن الثالث، فدل على صحته؛ إذ لو كان باطلاً لرده كما ردهما، ثم أرشد على أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته، فقال في مثل هذا: ((قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ))، فإنه ما يعلم ذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه، فلهذا قال: ((فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا)) أي: لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته ولا تسألهم عن ذلك، فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب، فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف].

إن الله تعالى ذكر الخلاف في عدة أصحاب الكهف فقال: ((سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ)) فالقول الأول أنهم ثلاثة والرابع الكلب: ((وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ)) وهذا هو القول الثاني، وهو أن عدد أصحاب الكهف خمسة والسادس الكلب، ثم رد الله تعالى ذلك فقال: ((رَجْمًا بِالْغَيْبِ)) أي: أن هذين القولين ما عليهما دليل، ثم قال تعالى: ((وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ)) وسكت عن هذا، فدل على أنه هو القول الصحيح، وهذا استنباط.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف، أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن تنبه على الصحيح منها وتبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته؛ لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته فتشتغل به عن الأهم فالأهم، فأما من حكى خلافاً في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص، إذ قد يكون الصواب في الذي تركه].

هذا إذا أراد أن يحكي الأقوال، أما إذا أراد أن يفتي فإنه يختار القول الصحيح.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أو يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال، فهو ناقص أيضاً، فإن صحح غير الصحيح عامداً فقد تعمد الكذب، أو جاهلاً فقد أخطأ، وكذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته أو حكى أقوالاً متعددة لفظاً ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى فقد ضيع الزمان وتكثر بما ليس بصحيح، فهو كلابس ثوبي زور.

والله الموفق للصواب].